بعد الثورة الشعبية في تونس ومن بعدها مصر، كان السؤال: من هو البلد المرشح للثورة؟ تلاحقت موجة الثورات لتشمل اليمن وليبيا وسورية؛ لكن السؤال صار مختلفا: من هو البلد العربي المرشح للفوضى؟
لم يترك المسار الذي اتخذته الثورات في تلك البلدان، باستثناء تونس، مجالا للتفكير بغير الفوضى. ولهذا السبب تراجعت حركة التغيير في دول عديدة كانت مرشحة للالتحاق بركب الثورة، خوفا من الفوضى.
العراق لم يكن منذ البداية مرشحا لثورة على غرار مصر أو ليبيا، نظرا لطبيعة نظامه السياسي "الديمقراطي" الذي تأسس بعد الاحتلال، لكن نصيبه من الفوضى كان وافرا. لم تحمه الديمقراطية، ليس لأنها تجربة حديثة العهد وعرجاء، بل لأنها قامت على المحاصصة الطائفية؛ فلم تصمد أمام إغراءات الأزمة السورية.
لبنان صاحب تجربة عريقة في المحاصصات الطائفية. حمته سياسة "النأي بالنفس" من تبعات الأزمة السورية لفترة من الوقت، لكن أطراف المعادلة المنغمسة في الشأن السوري لم تستطع أن تقاوم طويلا. حزب الله التحق بساحات القتال عبر بوابة "القصير" لدعم النظام السوري، والمعارضة السُنّية بقيادة تيار المستقبل، ناصرت نظيرتها السورية، ومنحت الغطاء لجماعات متشددة لمحاربة النظام.
كانت تلك التطورات مجرد بداية تؤشر على قرب التحاق لبنان بقطار الفوضى، بعد أن فاته من زمن بعيد قطار الثورة. وهذا ما حدث بالفعل بعد سنة واحدة فقط؛ انتقلت المشاحنات الطائفية إلى طرابلس المأزومة والمنقسمة على نفسها. ومع تنامي قوة "جبهة النصرة" و"داعش" في المشهد السوري، وحضور السلفيين في الوسط السني اللبناني، تكوّن ما يمكن وصفه بالتيار العابر بين البلدين. وتجلى ذلك في معارك عرسال التي وضع المتطرفون قدما فيها، لم يتمكن الجيش اللبناني من اقتلاعها حتى الآن.
ليس متوقعا أن يتمكن جيش لبنان الصغير والمتواضع، حتى بعد صفقة التسليح السعودية، من حسم المعركة. في العراق، صُرفت مليارات الدولارات على تسليح الجيش، لكنه انهزم أمام بضع مئات من المقاتلين في الموصل. والمعركة، حسب قول قائد "جبهة النصرة" أبو محمد الجولاني، لم تبدأ بعد مع حزب الله. عرسال ليست سوى نقطة انطلاق لمواجهة أوسع نطاقا، ساحتها بالطبع مدن لبنان وليس سواها. زعيم حزب الله حسن نصرالله، رد على تهديد الجولاني بالتأكيد على أن حزبه سينتصر على التكفيريين مهما بلغت التضحيات.
المسألة باتت محسومة إذن؛ لبنان على وشك الالتحاق رسميا بقطار الفوضى. البعض ما يزال يراهن على المعادلة الإقليمية لتجنب هذا المصير. يقول أصحاب هذا الرأي إن تفاهمات سعودية، إيرانية، قطرية، وأميركية، تقضي بتجنب التصعيد في لبنان.
لكن يتعين ملاحظة أن الصراع في المنطقة يكاد يفلت من يد القوى الإقليمية والدولية، ويسقط في حضن لاعبين محليين. بمعنى آخر، صار الصراع محكوما بقوانينه الداخلية. القوى الإقليمية التي يشار إليها، لم تفلح حتى الآن في حل أزمة الجنود اللبنانيين المختطفين، ولا في تسوية ملف عرسال على محدوديته؛ وقبل ذلك لم تتمكن حتى يومنا هذا من التوافق على رئيس للجمهورية، فكيف لها أن تكبح جماح قوى طائفية تستحضر في خطابها اليوم عدة أيديولوجية ودينية تعود لآلاف السنين؟ طالعوا خطاب نصرالله الأخير في ذكرى عاشوراء، وشاهدوا فيديو الجولاني الأخير، لتعلموا إلى أي زمن عدنا.
لبنان في عرف القوى المتصارعة ساحة حرب مميزة؛ مثل العراق وأكثر، لا يمكن تركها هكذا تنأى بنفسها. الحروب الطائفية تحتاج للوقود بشكل مستمر، ولبنان مصدر غني بالوقود الطائفي.
(الغد)