بالرغم من أنّ أغلب الشعوب العربية غارقة في مشكلاتها وهمومها؛ سواء كانت عبر موجة الحروب الداخلية الأهلية في سورية والعراق واليمن وليبيا، أو ممثلة في الأزمات السياسية أو الاقتصادية، كما هي حال باقي الأقطار، إلا أن القدس قصة مختلفة تماماً، والمسجد الأقصى قضية رمزية كبرى لا تمرّ من دون تداعيات وتبعات هائلة على حالة الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة.
ما يُفترض أن يُقرأ جيّداً، هو أنّ الشعوب والمجتمعات العربية، بخاصة أجيال الشباب الصاعدة ضمنها (وهي شريحة كبيرة كما تعلمون)، لم تعد تؤمن بالمسيرات السلمية والمظاهرات والاحتجاجات المؤقتة؛ إذ هناك ملل وشعور بعدم جدوى تلك الأساليب. والبديل الجاهز لذلك اليوم هو التيار السلفي الجهادي، الذي يقدّم أجوبة تتناسب مع الواقع الراهن المتدهور!
الأعمال الإسرائيلية العدائية اليوم، وفضلاً عن أنّها تمثّل عدواناً سافراً غير أخلاقي على المقدسات، وتقذف باتفاقيات وجهود السلام عرض الحائط، فإنّها تعني شيئاً واحداً فقط، هو: فتح الباب مشرعاً في المنطقة العربية لينطلق الغاضبون المحبطون اليائسون، الذين ينضمّون إلى "السلفية الجهادية" بصيغها المتعددة اليوم، ولتجسّد التيار الذي يستعدّ لملء الفراغ السياسي الكبير في المنطقة.
هل نبالغ؟! أم نهدّد؟! أو ربما نبتز إسرائيل والدول العربية العاجزة بهذا السيناريو المرعب؟! لا، فالجواب ماثل بشكل سافر أمامنا؛ هذا "التيار الجهادي" نما وتضاعف، وقفز قفزات هائلة، فقط خلال الأعوام القليلة الماضية، على وقع التحولات والتقلّبات الجذرية التي تحدث!
الأهمّ من حجم التيار، هو تكوينه ونوعية الأعضاء، وخلفياتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. إذ أصبحنا نراه اليوم يخترق فئات المجتمع طولاً وعرضاً، في العديد من المناطق العربية، ويتحول من تيار هامشي إلى واقع متجذّر، بل ويمتلك شروط البقاء والاستمرار والنمو.
وكي تكتمل شروط الانفجار وعناصره، فلم تكن المنطقة تحتاج إلاّ إلى المتطرفين الصهاينة؛ إذ يضعون الدول العربية المشاركة في التحالف الدولي والإقليمي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، ضد تنظيم "داعش"، في مأزق خطر وكبير! فكيف يمكن التركيز على موضوع "داعش" و"التطرف الإسلامي"، بينما المجتمعات العربية السُنّية تعيش حالة من القلق والفراغ السياسي والشعور بالضعف، ثم يأتي العدوان على المسجد الأقصى ليجسّد ويكرّس هذا العجز الرسمي العربي، بينما الدول العربية مشغولة بمواجهة "داعش" ودعم نظام السيسي ضد جماعة الإخوان المسلمين، ومحاصرة "حماس"!
هل هناك وصفة أفضل من هذه للدعاية والتجنيد من قبل الجماعات السلفية الجهادية؟! لا أظنّها بعد ذلك بحاجة إلى أي دعاية، بل ستبذل جهوداً كبيرة في تقنين عملية الانضمام إليها، وفرز القادمين، منعاً للاختراقات الأمنية. وستواجه مشكلة في التدريب والإعداد والتجهيز، إذا ما تطوّرت أحداث المسجد الأقصى. ومن الأفضل للرئيس الفلسطيني محمود عباس أن ينهي حياته السياسية الآن فوراً، وأن يفتح الباب لرجل "النظام الرسمي العربي" وحبيبه المدلّل، محمد دحلان، كي يسرّع في حدوث الانفجار!
أردنياً، هذا الموضوع خطر جداً، يمس الأمن الوطني؛ لما له من أبعاد رمزية ودينية وتاريخية. وهو قضية داخلية بامتياز. ومن الواضح أنّ الحكومات العربية غير معنية جدّياً بالأمر، ومشغولة بصراعات إقليمية وداخلية، من ثم، فإنّ المهمة تقع على عاتق الأردن. وما يضاعف من هذه المهمة والمسؤولية، الاتفاقية الموقعة مع السلطة الفلسطينية بشأن الوصاية الهاشمية على المقدسات. من هنا، فإنّ معركة "الأقصى" هي معركتنا الرمزية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية، وأي تصرّف من الغبي بنيامين نتنياهو وحكومته سندفع ثمنه داخلياً، وسنتحمّل نتائجه.
ذلك يدفع، مرة أخرى، إلى تطوير فكرة تسليم هذه المهمة للجنة أو شخصيات كبيرة، ليس فقط أردنياً، بل عربياً وعالمياً. فلتأخذ قضية "الأقصى" أقصى اهتمام وطني أردني.
(الغد)