كثيرا ما نَصِفُ هذا الإنسان، أو ذاك، بأنه متحدث جيد.. متحدث لبق.. متحدث مقنع، وجذاب. بل قد يصل الأمر إلى حدّ مدح أحدهم بأنه (مسحوب ) من لسانه؛ كناية عن قدرته الفائقة على الكلام المتواصل، في أي وقت، وفي أي مناسبة، مع شيء من التظارف والمجاملة، أو سلاطة في اللسان، وحدّة في القول والرد.
ولكننا نادرا، بل نادرا جدا، ما نمدح إنسانا ما، بأنه مسـتـمع جيد.
أظن أن ذلك يشير إلى واحد من أمرين اثنين، أو ربما إليهما معا في الوقت ذاته. فإما أن المستمعين الجيدين هم قلة قليلة في المجتمع، وإما أن ثقافتنا المجتمعية لا تدرك أن الاستماع الجيد والفعّال، هو صفة إيجابية، إذا توافرت في إنسان ما، استحقت أن تُذْكَرَ له، وتُشْكَر.
إن الحديث والاستماع هما العنصران الأساسيان في عملية الاتصال اللفظي الذي يتمثل في الندوات، والمناظرات، وأحاديث المجالس والدواوين، وحتى في الحوارات العَرَضِيّة اليومية.
وأقول إنهما العنصران الأساسيان، على افتراض توفر قناة التواصل المناسبة بين الطرفين.
من آفات التواصل اللفظي المباشر، كما نشاهد ونرى في كل يوم، وبخاصة على شاشات التلفزة، أن العملية تشبه تبادلا لإطلاق النار بين خصمين لدودين، حيث تتقاطع كلمات الطرفين، كما تتقاطع طلقات الرصاص في اشتباك مسلح. والسبب الرئيس، في ذلك كله، أن لا أحد من المتحاوريْن مستعد لأن يستمع، أو يصغي إلى ما يقوله محاوره أو مناظره.
ولهذا، فإن حواراتنا اللفظية، تخرج في أغلب الأحيان عن الغاية المرجوة منها، وهي تبادل الآراء،ووجهات النظر في موضوع من الموضوعات ؛من أجل التوصل إلى قناعات أقرب إلى الصدق والصواب، أو إلى الاتفاق على حل لمشكلة، أو إزالة لُبْس وسوء فهم.
"حوار الطرشان " هو التعبير الصادق في وصف الكثير من حواراتنا، ونقاشاتنا التي تغيب فيها فضيلة الاستماع، وتتعطل فيها حاسة السمع لصالح ألسنة حادة، جاهزة للقطع والمقاطعة، لأن أصحابها لا يصدرون في ما يقولون عن رًوِيّةٍ تُمَكّنُهُمْ من فهم رأي الطرف الآخر، و المقاصد التي يرمي إليها.
مهارة الاستماع الفعّال لا تقل، بأي حال من الأحوال، عن مهارة الحديث الفعال، إن لم تزد عليها، باعتبار أن ما يمكن أن نحرزه من علم وأفكار ومعلومات، وخبرات، وتجارب عن طريق حاسة السمع - تفوق ما نكتسبه عن طريق غيرها من الحواس أضعافا مضاعفة.
والاستماع الفعّال هو الاستماع المُنْتِجُ، المفيد، المعين على استخلاص جوهر حديث المتحدث؛ وفهم مراميه، كي لا ينطبق على السامع قولهم عنه ( حاضر الذقن غائب الذهن)،حتى إذا جاء دور المستمع في الكلام، أو الرد والنقاش – كان على بيّنَةٍ من النقاط والأفكار التي تتفق ورأيه، ليثني عليها، ويجعلها منطلقا لمناقشة ما يراه من نقاط اختلاف؛ ليتبعها بوجهة نظره التي يراها أقرب إلى الحق والصواب؛ مؤمنا دائما بأن (الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها، التقطها).
الحوار مهما كان مستواه، لا بد أن يتم بعيدا عن منطق الخصام، بعيدا عن منطق الغالب والمغلوب، بعيدا عن آفة المناكفة التي تحيله إلى مهارشة، أو صراع ديكة، يدلّ أول ما يدل على الجهل بأبجدية الحوار وآدابه.
وأخيرا، أقول: لحكمة بالغة، أرادها الخالق الحكيم، كان للإنسان لسان واحد، يحبسه فكّان و شفتان، وصفّان من الأسنان، وكان للسمع أذنان طليقتان، على يمين وشمال تتجهان.