حوار مع الإسلاميين .. «الإصلاح ليس قرارًا ولا جبرًا» (18)
بلال حسن التل
29-10-2014 04:16 AM
قلنا في المقال السابق، إن المصلح يجب ان يتصف بالصبر، وطول النفس لبناء الإنسان الفرد، وبناء الجيل المؤمن؛ ثم المجتمع الصالح. فالإصلاح لا يتم بقرار فوقي ولا بالإستيلاء على السلطة.. وهي حقيقة كان على الجماعات والجمعيات، والأحزاب، والحركات الإسلامية التي أعلنت عن رغبتها في تغيير واقع الأمة، وفي أقل الأحوال إصلاح هذا الواقع ان تعيها، خاصة بعد ان صار أكثر المصطلحات التي تتردد في بلادنا، هو مصطلح الإصلاح، ومثله مصطلح التغيير، اللذان تم دمجهما عند جلّ الناس، وصار الذين يرددون صبح مساء كلمة التغيير كثيرين في بلادنا. فقد صرنا نعيش في الزمن الذي تعلو فيه أصوات المطالبين بالتغيير والإصلاح. بل وفي زمن وصل فيه بعض دعاة التغيير والإصلاح، إلى موقع صنع القرار في أوطانهم. فهل هذا الوصول يكفي وحده لتحقيق التغيير والإصلاح المنشوديْن؟.
بمعنى آخر، هل يتم التغيير بالقهر والجبر؟ بل وأكثر من ذلك، هل يتم التغيير والإصلاح بقرار سياسي؟ أم أنه يجب أن تسبق القرار عملية تهيئة للناس، من خلال إعادة بناء قناعاتهم، عبر عملية تعليمية تربوية تثقيفية، تبني قيماً ومفاهيم، وتتجسد سلوكاً لدى أبناء المجتمع المستهدف بالإصلاح؟.
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي منا جميعًا، وفي طليعتنا أبناء الحركة الإسلامية مراجعة التجربة التاريخية لمسيرة التغيير والإصلاح على وجه الأرض، وعلى وجه أخص سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي بُعث للبشرية كلها، موضحاً لها طريق صلاحها، كما أراده لها خالقها. خاصة وان الأصوات الأكثر ارتفاعاً، ومطالبة بالتغيير، هي أصوات أبناء الحركات الإسلامية، التي وصل بعضها إلى الحكم ومواقع القرار، مما يفرض عليها مسؤولية الاقتداء برسولنا العظيم، خاصة في سنته التي اتبعها لتغيير واقع الناس، حيث يبرز أسلوبه عليه السلام باعتماد مبدأ الحوار والإقناع والبُعد عن استخدام الإكراه والجبر، وحيث تبرز أيضًا صفة الصبر العظيم التي كان يتصف بها رسولنا الكريم، خاصة على الأذى، ومن ثم رفضه حرق المراحل، وكذلك حرصه عليه السلام على كسب الجميع من جهة، وعلى توحيد صف المجتمع من جهة أخرى. كما أكدت ذلك وثيقة المدينة المنورة التي لم تُقصِ أحداً، ولم تُعاد أحداً، وحافظت على التنوع الديني والثقافي في المدينة بين المسلمين واليهود والمشركين، وقبل ذلك لا بد من ان نذكّر بصفة الصفح الجميل، والعفو عند المقدرة عند رسول الله؛ ويكفي موقفه العظيم يوم الفتح الأكبر عندما قال لمن عذبوه وأخرجوه من دياره:»أذهبوا فأنتم الطلقاء» فأين من هذا ما نراه ونسمعه من تهديد ووعيد، بل والإقصاء الذي سنت له قوانين، وكذلك الأخذ بالشبهات، وأكثر من ذلك التكفير والفتوى بالقتل؟.
إن المتابع للتجارب البشرية عموماً، وتجربة الرسل، سيكتشف دون كبير عناء ان تغيير المجتمعات وإصلاحها لا يتم بقرار، ولا بممارسة العنف، ولا بالإكراه، ولا بالإقصاء.. ولكنه يتم بتعليمها، وبإعادة بناء وعي أبنائها.. فأين دعاة التغيير، خاصة الإسلاميين منهم من هذه الحقيقة الكونية، وهم يطالبون بالإصلاح دون أن يكلفوا أنفسهم عناء توفير شروط هذا الإصلاح عبر بناء منظومة قيمية تقود إلى الإصلاح المنشود؟.
فكم منا هم الذين تأملوا دلالات حكمة الله عز وجل عندما جعل أول الوحي على خاتم الأنبياء المبعوث للعالمين بآخر الرسالات التي فيها صلاح البشرية إلى يوم الدين حديثاً عن العلم بشقيه-القراءة والكتابة-بقوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: 1-5). ألا تقول لنا هذه البداية للوحي الإلهي الذي نزل بمنهج لا يستهدف تغيير واقع قريش والعرب فحسب، بل تغيير واقع البشرية، وتزويدها بمنهج صلاحها إلى يوم الدين؟ إن الإصلاح أو التغيير لا يتمان بقرار ولا بالجبر كما يحلو لبعض الحركات الإسلامية ان تفعل.. فهذه البداية الواضحة للوحي تقول: إن تعليم الناس، بمعنى بناء قناعاتهم ومفاهيمهم عبر الحوار وعبر تقديم القدوة والنموذج المتميز هو أول خطوات تغيير واقع الناس ومجتمعاتهم وإصلاحه، وأساس هذا التغيير؛ ذلك أن المفاهيم هي أول ما ينتجه التعلم؛ ومن المعروف أن الإنسان يعيش وفق مفاهيمه حتى لا نقول أسيرها. والتعليم الذي نقصده لا يقتصر على محو أمية الحرف، ولا على حفظ قانون المادة، بل يشمل ما هو أهم من ذلك بأن يتعلم الإنسان ويفهم شروط إعمار الأرض والمجتمعات القائمة عليها، والنواميس الضابطة لدوره، والصفات التي يجب أن يتحلى بها, وأولها ان يكون كريماً «ولقد كرمنا بني آدم» وان يكون حراً، كما أراده خالقه، الذي أعطاه الحرية حتى بالإيمان به سبحانه وتعالى من عدمه، «لكم دينكم ولي دين» وهي الحرية التي استكملت بحرية الاختيار «لا إكراه في الدين» وهو الاختيار الذي تترتب عليه المسؤولية «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره».
باختصار، إن النص القرآني والسنة النبوية، ومثلها السيرة النبوية، كلها تؤكد أن الإصلاح لا يتم بالإجبار ولا بقرار، ولكن بالتعليم عبر الحوار.. والتعليم الذي نتحدث عنه هو التعليم الذي يقود إلى التغيير المقصود بقوله تعالى:»إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وهو عينه التعليم الذي يعرف الإنسان بوساطته ما له وما عليه. وهو التعليم الذي يتجسد سلوكاً في واقع الناس، ومن ثم يحدد هوية المجتمع دون جبرٍ أو إكراه.
فهل انتبه دعاة التغيير، وخاصة الإسلاميين منهم إلى هذا الأساس الهام من أسس التغيير وشروطه؟ أم ان الهوَسَ السياسي الذي أصاب الكثيرين منهم أعماهم عن هذا الناموس الإلهي، فدفعهم إلى محاولة فرض مفاهيمهم، ومن ثم تغيير واقع الناس بالقوة، أو بالضغط من خلال الإضرابات، والمسيرات، والمظاهرات أو بقرار فوقي. وهو ما لم يتم، وإن تم فلن يدوم.. وهو قبل ذلك خروج عن منهج الإسلام في الإصلاح والتغيير، وهذا هو الخطأ القاتل الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية المعاصرة التي استبدلت منهج التغيير الرباني المعتمد على التربية، بمنهج التغيير البشري الذي يستند إلى قوة الشارع المستعجل. لذلك انطبق عليه القول:»من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه».
(الرأي)