خواطر من وحي الانتخابات التونسية
د.رحيل الغرايبة
29-10-2014 04:14 AM
أسفرت نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة عن فوز حزب نداء تونس بالمرتبة الأولى، فيما حصل حزب النهضة على المرتبة الثانية، في أول انتخابات تجري بعد إقرار دستور تونس الجديد الذي أشرف على وضعه المجلس المنتخب السابق الذي أطلق عليه اسم الجمعية الوطنية، إذْ كانت المهمة الرئيسة للجمعية الوطنية الإشراف على المرحلة الانتقالية التي تهيئ لتونس المستقبل، تونس الديمقراطية الحديثة، التي تنتفي منها كل ملامح الاستبداد والحكم الفردي الديكتاتوري الفاسد.
لقد استطاع حزب النهضة أن يجتاز الامتحان الأصعب وأن يقود المرحلة الأشد خطورة في تاريخ تونس الحديث، إذْ حرص على ايجاد صيغة تشاركية لإدارة الدولة، وقدّم خطاباً نهضوياً حداثياً تجاوز من خلاله كثيراً من الأخطاء التي وقع فيها بعض الإسلاميين في كثير من الأقطار العربية خلال الفترة السابقة التي يطلق عليها ثورة الربيع العربي، واستطاع أن يشكل عاملاً هاماً من عوامل التوافق الوطني على الدستور الجديد؛ الذي يعد نموذجاً يحتذى على الصعيد العربي، وكان قادة النهضة أكثر وضوحاً في التركيز على هدف إحلال الديمقراطية وتجذيرها قبل التركيز على تمكين حزبهم وجماعتهم.
وهنا تثور مجموعة من التساؤلات حول نتائج الانتخابات في ظل أداء النهضة المتميز، المتسم بالمرونة والحس الوطني العميق، حيث يحتاج ذلك إلى دراسة وتقويم من طرفهم أولاً، لأنهم أكثر قدرة على قراءة المشهد التونسي وأكثر دقة في تقدير الموقف وما يشوبه من تعقيدات وتغيرات منظورة وغير منظورة، بالإضافة إلى ما يمتاز به الواقع التونسي من خصوصية وفروقات دقيقة لا يدركها كثير من الناس، ولكن نحن الذين ننظر ونرقب المشهد عن بعد يمكننا أن نقف على بعض الملاحظات التي تحتاج إلى حوار وإنضاج..
أولها: ان رجال حزب النهضة والإسلاميين عموماً يمتلكون عقليات جيدة، وهمما عالية، ومستوى أخلاقيا رفيعا، ولديهم تخصصات كثيرة وعديدة، ولكن يتجلى النقص لديهم في الخبرة العملية في إدارة الدولة، وربما يفتقرون إلى البرامج التفصيلية القادرة على معالجة الأوضاع الأمنية والاقتصادية بشكل فني عملي تطبيقي عل وجه الخصوص، وسبب ذلك يعود إلى أنهم كانوا طوال الفترة السابقة يعانون من سياسة الإبعاد عن مناصب الدولة، وظلوا خلال الحقبة الغابرة وهم يعانون من المطاردة والإقصاء والملاحقة الأمنية القاسية وبعضهم كان يعيش في المنافي خارج الوطن؛ ما جعلهم يتقنون فن المعارضة والنقد، اكثر من قدرتهم على اكتساب التجربة العملية لشؤون الدولة العديدة.
ثانياً: حزب النهضة دفع فاتورة الإسلام السياسي على مستوى العالم، ودفع ثمن أخطاء الإسلاميين في أماكن أخرى كثيرة خارج تونس، حيث ظهر ذلك بوضوح في دعاية الخصوم الذين حاولوا أن يلصقوا تهمة الإرهاب والتطرف بالإسلام السياسي عموماً دون تفريق بين المعتدلين وغير المعتدلين، كما وجد الخصوم الفرصة المناسبة للنيل من شعبية النهضة؛ من خلال إظهار بشاعة المجموعات المتطرفة في مختلف بقاع العالم، التي كان لها أثر واضح في إثارة التخوفات والتوجسات لدى شرائح الشعب من كل اولئك الذين ينتسبون إلى ايدلوجية الاسلام السياسي.
ثالثاً: تم التركيز كذلك على الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به تونس والمنطقة العربية برمتها، وتم تحميل النهضة مسؤولية الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وأنهم عجزوا عن تحسين الفرص الاقتصادية وعجزوا عن توفير فرص العمل للشباب الذين لم يلحظوا الفارق الكبير بين عهد بن علي والعهد الجديد، واستطاعت الآلة الإعلامية الرهيبة على مستوى تونس والعالم الخارجي أن تنفخ في روع المواطنين أن جماعة النظام السابق أكثر قدرة على إدارة الشأن الاقتصادي والشأن الأمني الذي يتقدم بالأهمية بحسب الجماهير الجائعة على الحرية والتنظير السياسي.
رابعاً: كان هناك جهود وأموال عربية طائلة مبذولة من أجل إحياء رجال العهد البائد، وهناك تقارير ووثائق حول الجهد العربي الخارجي الذي يحاول افشال كل ثورات الربيع بما فيها تونس، وتظهر آثار هذا التدخل بأشكال كثيرة ظاهرة للعيان في ليبيا ومصر واليمن وغيرها.
كان الأجدر بحزب النهضة والقوى الديمقراطية المشاركة بالثورة أن تنتبه وتتيقظ تجاه هذه المسألة الخطيرة، وكان يجب التزام منهج الصرامة في المرحلة الأولى فيما يتعلق بالعهد البائد، وأعتقد أن هؤلاء يجب ابعادهم عن المرحلة الحالية لمدة لا تقل عن عشرين عاماً، حتى يتم تطهير جميع أجهزة الدولة من نفوذهم وفسادهم، فهم يمتلكون خبرة طويلة في سياسة الإبعاد للخصوم، وسياسة الاستفراد بالحكم ،من خلال التغلغل في مراكز الدولة الحساسة، ومن خلال امساكهم بأعمدة الإقتصاد والشركات الكبرى لمدة تصل إلى نصف قرن من الزمان تعود إلى عصر «بورقيبة» ومن بعده «بن علي».
نحن نتمنى لتونس وشعبها الشقيق أن يستمران في مسيرة تجذير الديمقراطية بمعناها الحقيقي، وأن يتم التمكين للشعب التونسي من أجل الاختيار الحر النزيه، وليس مهماً على الإطلاق فوز تيار أيدولوجي معين، واخفاق اخر بالوصول الى السلطة؛ بقدر ما يهمنا ان يكون الاختيار منصباً على الكفاءة والقوة والأمانة، والاكثر تمثيلا للاردة الشعبية.
نتمنى على حزب (نداء تونس) أن يحمل هذه الرسالة وألا يعمل على هدف إبعاد فئة، وتقريب فئة، ومحاربة تجاه والتمكين لاتجاه آخر، وألا يعمل على عودة العهد البائد بوجه آخر؛ ظاهره الديمقراطية وباطنه إفشال ثورة الشعب التونسي العظيم.
(الدستور)