تحليل في ماضي ومستقبل العمل السياسي للجماعة - اسماعيل الشريف
"الأردن بحاجة إلى الإخوان المسلمين" - الملك عبد الله الأول
شهدنا في الفترة القريبة صعودا وأفولا لنجم الإخوان المسلمين، ولمسنا تأثرهم في الأردن بالتغييرات الجذرية التى مروا بها سياسيا من معارضة إلى جماعة إرهابية محظورة مرورا بسدة الحكم في القاهرة، ورأينا التباين في مواقف الدول من الجماعة كحزب سياسي. فما الذي يحدث؟ وهل هناك مستقبل سياسي للإخوان المسلمين؟
هل الإخوان المسلمون إرهابيون
بعد سقوط حكم "الإخوان المسلمون" في مصر، البعض يسميه انقلابا عسكريا والبعض الآخر يراه تصحيحا لمسار ثورة يناير، كان من النتائج حظر الجماعة باعتبارها منظمة إرهابية في دول، وتعرضها لحملة شرسة في دول أخرى للتضييق عليها ووصمها بالإرهاب. فها هو التاريخ يعيد نفسه، والسؤال المهم هل الإخوان المسلمون منظمة إرهابية؟ إجابة مباشرة أقول لا، فالجماعة في الدول المختلفة لا يجمعها أحيانا سوى الاسم والفكرة، والأمر تماما كما يقال حاليا بأن المسلمين إرهابيون، فهل هذا صحيح؟
سأحاول في هذه المقالة أن أبرهن وجهة النظر هذه من عدة زوايا، أبدأها بسرد تاريخي مختصر لثلاثة من أبرز مكاتب الإخوان في ثلاث دول هي مصر وسوريا والأردن، ثم أتطرق إلى بعض الشواهد والخلاصات، ومن خلال هذا السرد سنصل سويا إلى خلاصة أن الإخوان يختلفون من دولة لأخرى في أهدافهم وسياساتهم، ويساهم في تشكيلهم التاريخ والاقتصاد والديموغرافيا وعلاقتهم بالدولة، وأحيانا تتباين مواقف الجماعة من بلد لآخر فتقف على طرفي النقيض من الخلاف، فعلى سبيل المثال في حرب الخليج أيد إخوان الكويت دخول القوات الأجنبية فيما رفض ذلك إخوان الأردن.
لنبدأ باختصار شديد.
تاريخ الإخوان في مصر
نشأت الجماعة في مصر عام 1928 على يد حسن البنا، وكان من أسباب نشأتها فزع البنا من التأثير الغربي على المجتمعات الإسلامية بعد سقوط الخلافة، وكانت في بداياتها حركة إصلاحية تهدف إلى تصويب عقيدة وتحسين سلوك الفرد الذي هو لبنة المجتمع الإسلامي، وتركزت أنشطتهم على الأعمال الخيرية، وحققت الجماعة نجاحا باهرا ، ففي الثلاثينيات كان لديهم حوالي خمسمائة فرع على مستوى الجمهورية وعشرات الآلاف من الأعضاء، ولم يكن ليتأتى هذا النجاح إلا من خلال النشاطات الخيرية الواسعة والسمعة الطيبة.
وبوجود هذا الانتشار والأعضاء بدأ البنا يرى أن البناء السياسي سيسرّع من حلمه في المجتمع الإسلامي، وهنا بدأ تاريخ الإخوان السياسي في مقاومة الاحتلال الانجليزي في مصر والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ورفَض الشارع نظامه السياسي الذي ظهر فساده، فشارك الإخوان في ثورة الضباط الأحرار، وما لبثوا أن رأوا أن جمال عبد الناصر اتخذ خطا علمانيا فدعموا خصومه، وهنا ولأول مرة حُظرت الجماعة وعذب قادتها وزج بهم في السجون. واستمر ذلك إلى فترة السبعينيات عندما وجد السادات نفسه بحاجة لميزة على سلفه عبد الناصر، فاستغل الإخوان وأدخلهم في الحياة السياسية ليكونوا ندا قويا للأحزاب الناصرية. أما عصر مبارك فقد شهد مدا وجزرا بينه وبين الحركة، فكان لهم حضور بارز في الحياة السياسية عندما سهل الأمر لهم كما في منتصف التسعينيات، وأحيانا أخرى قاطعوا الانتخابات، وأحيانا كثيرة زورت الانتخابات حتى يختزل حضورهم إلى الحد الأدنى في الحياة السياسية. ثم جاءت ثورة يناير وأفرزت لأول مرة في تاريخهم رئيسا منتخبا ما لبث الجيش أن انقلب عليه مستغلا ثورة جديدة ضد الرئيس.
سوريا تستلم الراية وتعيدها
في سوريا أنشئت الجماعة على يد مصطفى السباعي عام 1945 وكان صديقا شخصيا للبنا، وكانت الحركة قد غدت سياسية في مصر، أما في سوريا فقد أعلن السباعي أن "الإخوان المسلمون" ليست حزبا سياسيا وإنما هي روح تتغلغل في المجتمع الإسلامي، وكانت تهدف في سوريا إلى الاشتراكية وإنهاء سيطرة الطبقة الغنية ومحاربة الإقطاع، وتوفير تعليم وطب مجانيين للجميع، وبعد أن نكل عبد الناصر بالجماعة في مصر انتقلت القيادة الى سوريا عام 1954، ووجدت نفسها تمارس دورا سياسيا فرض عليها في فترة الانقلابات، ومرة أخرى وصلت بعض القيادات إلى الحكم على أكتاف الجماعة وما لبثوا أن انقلبوا عليهم. وفي سوريا تاريخيا لم يدخلوا الحياة السياسية مباشرة في أول الأمر إلا من خلال دعم مرشحين مستقلين، وكان ترشيح أي من أعضاء الجماعة مشروطا باستقالته من الجماعة، ولكن ذلك لم يشفع لها، فحلها الرئيس الشيكاكلي.
في عام 1980 شهدت سوريا مظاهرات في مدن سورية رئيسية ضد سياسات الأسد الأب، شاركت فيها الجماعة، فكان من نتائجها مجزرة حماة عام 82 على مدى ثلاثة أسابيع، فضعفت الحركة بشكل كبير هناك، وعادت القيادة مرة أخرى لمصر.
صعود وهبوط في الأردن
وفي الأردن تأسست الجماعة عام 1945 على يد عبد اللطيف أبو قورة الذي اتصل بالبنا، وكان أبو قورة صديقا شخصيا للملك عبد الله الأول حيث دعم الملك الجماعة وآمن بمبادئها، وكانت النتيجة تحالفا قويا بين النظام والجماعة التي وقفت إلى جانبه على الدوام ونصرت رؤية الملك الحسين أيام كلوب باشا، وكان منهم الوزراء، وانصب عملهم في الأربعينيات والخمسينيات على الأعمال الخيرية ثم في العقد الذي تلاه على التعليم، وفي العقود التالية اكتسحوا انتخابات النقابات المهنية، وكان حضورهم قويا في مجلس النواب، إلى أن وقع الشرخ في علاقتهم مع الحكومة عندما وقعت الأردن اتفاقية وادي عربة، وبعدها ظلت العلاقة مع الحكومة بين مد وجزر، إلا أنها ساءت في السنوات الأخيرة بعد أن انضمت الجماعة لأحزاب المعارضة فقاطعت الانتخابات النيابية.
قوالب مختلفة
وعبر التاريخ الطويل للجماعة أتهمت أحيانا بالعنف وكانت مطالبها لا تتجاوز الإصلاحات السياسية ومقاومة الاحتلال.
من السرد التاريخي السريع نلاحظ نشأة وأهداف وتقديم كل جماعة لنفسها وعلاقتها مع النظام السياسي ومدى استخدام العنف ضدها يختلف من بلد لآخر، وإذا ما نظرنا إلى ديموغرافيا كل بلد نراها مختلفة، فالمجتمع المصري على سبيل المثال مجتمع متجانس، ومعظم اتباع النظام كان من المحافظات والطبقة الوسطى المتعلمة، أما في سوريا فهو مجتمع إثني بغالبية سنية، فكان معظم أتباع الجماعة من السنة في حلب وحمص.
سيد قطب وأدبيات الجماعة
ولا تقتصر الحركة على فكر معين، فقد كان مؤسس الجماعة يؤمن بأن إصلاح المجتمع نتيجة طبيعية لإصلاح الفرد وأن القرآن والسنة هو كل ما يحتاجه أي مجتمع لتنظيم نفسه، ثم جاء منظّر الجماعة سيد قطب، الذي غيّر كثيرا في أدبيات الجماعات الإسلامية بدعوته إلى بناء دولة إسلامية على خطى دولة الرسول والخلافة الراشدة، وتصوير علاقة الحاكم بالشعب على أساس أنها عقد اجتماعي، ونزع عن الحاكم الصبغة الفرعونية وأنزله منزلة وكيل عن الشعب ولكنه لم يحدد شكل الحكومة، وكان يؤمن بأن أي نظام سياسي يحكم المسلمين عليه أن يطبق الشريعة، فإذا لم تطبق الدولة الشريعة وجب القيام عليها.
وفي تبرير إعلان المسلمين الحرب على أنفسهم خرج سيد قطب بمفهوم الجاهلية والتكفير، ويرى البعض تشابها بين فكر قطب وماركس من ناحية إسقاط التاريخ على الحاضر لإثبات وجهة النظر، ومن باب العدل والإنصاف فإن أفكار قطب لم تتبناها أي من مكاتب الإخوان بشكل صريح، بل كان منهاجا لعدد من المنظمات الإسلامية المسلحة، ثم جاء الهضيبي الذي حاول التبرؤ من أفكار قطب فقال إن مهمة المسلم الأساسية هي الدعوة للإسلام في أي مجتمع، ولم يقرّ مصطلح الجاهلية، وكان براغماتيا مثل مؤسس الحركة.
التزام بالسلميّة
وتاريخيا لم تكن الجماعة هي البادئة بأي أعمال عنف وإنما أحيانا مارست قدرا من العنف في بعض البلدان كردة فعل، وهنا يجب أن نتوقف قليلا عند فترة حكم الإخوان القصيرة لمصر، حيث يعاب على مرسي أنه كان عليه بمجرد استلام الحكم بعد الثورة أن ينصب المحاكم الثورية ويفتك بالنظام السابق، إلى أن يتم التخلص من رجال مبارك المتغلغلين في كل مفاصل الدولة، إلا أنه لم يفعل، وكانت الحريات في أوجها خلال فترة حكمه، وانسحبت عناصر المحافظة على الأمن حتى وصلت البلاد إلى الفوضى، فظهر مرسي بمظهر الرئيس ضعيف، المهادن حينا، والمنجرف وراء الجماعة حينا آخر، ودفعت الجماعة ثمنا غاليا لذلك.
تأثير الدولة الحاضنة
وكما هو واضح، والأردن دليل على ذلك، فكلما استقبلت أية حكومة الإخوان أدى ذلك إلى وسطية الجماعة وسلميّتها، كما يلاحظ أنه لا يوجد سياسات واضحة للإخوان فهم يظهرون بمظهر براغماتي وأحيانا أخرى تغلب عليهم الأيدلوجيا حسب ما تمليه الدولة الحاضنة.
وفي اعتقادي أن جميع الأنظمة استغلت الإخوان، فعندما احتاجوا إليهم لتحقيق أهداف داخلية أو خارجية دعموهم أو على الأقل وقفوا موقف الحياد، وعندما انتفت هذه الحاجة قمعوهم، وفي المقابل، كثيرا ما استغل الإخوان حاجة الدولة إليهم للوصول إلى أهدافهم السياسية معتمدين على قاعدتهم الشعبية العريضة، ولكنهم ينسون دائما أن السلاح والقوة بأشكالها ليست بيدهم وإنما بيد الدولة.
التنظيم الدولي المحدود
وفي السنوات الأخيرة أصبحنا نسمع بالتنظيم الدولي للإخوان، الذي يفسره كل طرف بما يحقق أهدافه، فالحكومات تروّج أن الإخوان منظمة دولية مركزية تحدد أهدافها وسياساتها من خلال التنظيم الدولي، وأما الحركة فتقول إن التنظيم الدولي يضفي عليها صفة العالمية من باب الاستعراض والتسويق، ولكن برأيي هذا كله وهم خادع، فدور التنظيم لا يتعدى المشاورة والالتقاء بين مختلف قيادات الإخوان، ولنرجع قليلا إلى الوراء، فالإخوان عالجوا مشكلتهم في تونس ما بعد الثورة بالحوار مع معارضيهم وتقديم تنازلات، في حين فضّل إخوان مصر المواجهة، ولو كان هنالك تنظيم دولي مؤثر لوجدنا تشابها في سياسات الإخوان إزاء معارضيهم.
الحرب على الإخوان
وأعتقد أن مبالغة بعض الدول في حربها على الإخوان خطأ استراتيجي، فهو سيترك فراغا تقوى فيه الجماعات الإسلامية المتطرفة في مجتمعات يزيد فيها الشعور الديني خاصة في زمن الضعف والأزمات وانتشار الرذيلة. وهذه سياسة لم تنجح فكم مرة حظرت الجماعة وزج باعضائها في السجون ومن ثم عادت الجماعة مرة أخرى، وبوجود جماعة وسطية ضمن النسيج السياسي للدولة ستقف الجماعة بنفسها في وجه الجماعات المتطرفة خوفا من تسرب بعض اعضائها الى هذه الجماعات ، ولا تنسى هذه الدول أن دولا كبرى لا تريد أن تصنف الحركة على أنها إرهابية، ودولا أخرى تدعمها، وعلى الدول أن تقف في وجه المطامع التي تعمل على تقسيم الدول العربية وتحويلها إلى فصائل داخلية متصارعة.
متطلبات المرحلة السياسية
وعلى الإخوان أن يعوا أنهم في هذه المرحلة بأن دولهم غير جاهزة بعد لحكم سياسي بأيدلوجية دينية ، بل عليهم الحوار مع دولهم، وأن يطمحوا إلى التأثير لا السيطرة، يراقبون ويصححون ما أمكن، وينتقدون السياسات دون أن يعادوا النظام السياسي، فأولوية المرحلة تتطلب بناء مجتمع وسطي يتمتع بمعرفة في الإسلام تحصنه ضد الفئات المفسدة والأفكار الهدّامة.
وعلى الصعيد السياسي أعتقد أن على الجماعة أن تفصل منهجها في التنمية الاجتماعية والتعليم عن أجنحتها السياسية حتى لا تتأثر إنجازاتها وقواعدها في الأولى بأدائها في الثانية.
وهنا عليها أولا أن تعي أن أرقام الصناديق التي تصوت لها ربما تعبر عن تأكيد عقيدة لا اختيار جماعة، وأن استمرار هذا الدعم مرهون بأدائها في الميدان وإتقانها للعبة الإعلام. فلا يوجد تنظيم واحد يستطيع تمثيل المجتمعات الإسلامية كافة لأنها مجتمعات كبيرة ومتباينة.
وكأي حزب سياسي يتحتم على الجناح السياسي أن يقدم خطة عمل بأهداف مرحلية، وعليه أن يعلن صراحة رفض العنف ضد المدنيين والبراءة من الفئات التي ينبذها الشارع العام بسبب أعمالها التخريبية، وأن يطلق خطابا أخلاقيا من منطلق إنساني ويستوعب الجميع.