بعد أسابيع من التجاذبات وسط اعتبارات محلية, عربية ودولية حيال مستوى مشاركة الأردن في قمة دمشق, نزع صناع القرار, في ريع الساعة الأخير, إلى اختيار سفير الأردن في القاهرة رئيسا لوفد المملكة بعد أن شارك وزير الخارجية صلاح الدين البشير نظراءه العرب في الاجتماعات التحضيرية.
جدلية القرار المفاجئ تظهر مرة أخرى صعوبة التوفيق بين مصالح استراتيجية وفرعية معقدة لبلدين يصطفان في محورين سياسيين متناقضين- أو ما بات يسمى بحلفي "المقاومة والاستسلام"- في زمن تمادي مسلسل الاتهامات في شأن الو لاءات الخارجية, وعرقلة المبادرة العربية لحل أزمة لبنان.
إرسال عمر الرفاعي, سفير المملكة لدى مصر ومندوبها الدائم لدى الجامعة العربية, أعلن ظهر الجمعة, بعيد فض اجتماعات وزراء الخارجية. كان قرارا "سياديا بامتياز", بحسب ما رشح من الغرف المغلقة, مع أنه لا بد ان أغضب ساسة وأحزاب قومية الولاء لطالما تُمسك بما تبقّى من العروبة.
قرّر الأردن الرسمي "الانحياز للمصالح الوطنية الخالصة على حساب المصالح القومية الكبرى تماما كما تصرفت سورية التي فضّلت توظيف القمة لحسابها وحساب إيران", مع خروج القرار القومي من يد العرب لمصلحة طهران التي باتت تملك الثلث المعطل في الملفات السياسية المأزومة; لبنان, فلسطين والعراق, بحسب مسؤول حكومي.
اختار الأردن, الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة ساهمت في إضعاف موقفه السياسي الوقوف الى جانب السعودية, حليفه الاستراتيجي والاقتصادي الأول, والحفاظ على التحالف السياسي مع مصر على حساب كوة الانفراج الأخير في جدار العلاقات الأردنية - السورية المتأزمة لعقود.
فالأردن يدرك بأن عمان ستدفع ثمن مقاطعة القمة بتراجع سريع على صعيد العلاقات الثنائية مع سورية, بعد الانفراج الذي مرت به عقب زيارة الملك عبد الله الثاني المفاجئة لدمشق نهاية العام الماضي. تلك الزيارة انعكست في بدء حلحلة ملفات معقدة ومعلقة لسنوات تمس أمن الأردن الوطني مثل تقاسم حصص المياه وتعزيز التعاون الأمني وتزويد الأردن بالقمح, والإفراج عن الأسرى والمعتقلين في السجون السورية.
لكن المساعدات الاقتصادية والدعم السياسي أفضل لخزائن الدولة من انتظار قطرات مياه لم تصل أبدا ووعود سورية ظلت غالبيتها حبرا على ورق.
يقول مسؤولون, يتابعون عن كثب ملف تنامي العلاقات الأردنية-السورية خلال الشهور الأربعة الماضية, إن عمّان حاولت استغلال أجواء الحوار الثنائي لترطيب الأجواء بين دمشق والسعودية ومصر, لضمان حد أدنى من الموقف السوري تجاه الملفات العربية العالقة التي ستثيرها القمة.
لكن الجهد الأردني, الذي ظل أغلبه سريا, فشل. لا بل أثار حساسيات لدى واشنطن, القاهرة والرياض.
بموازاة ذلك, حاولت القاهرة أيضا العمل على توفير "خيار عربي" لسورية يبعدها قليلا عن "الحضن الإيراني". إذ طلبت من دمشق القيام ببعض الخطوات لتحقيق توازن في علاقاتها مع العالم العربي من خلال التعامل بايجابية مع الاستحقاق الرئاسي في لبنان, دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس وعملية التفاوض السلمي وتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية بين فتح وحماس عبر إقناع الأخيرة بالعودة عن انقلابها العسكري في غزة الصيف الماضي, والقيام بدور أكبر لمصلحة تعزيز الاستقرار السياسي والأمني في العراق.
طوال الوقت بقي الأردن صريحا مع سورية من خلال إصراره على ربط مستوى مشاركته في القمة بحجم المرونة السورية تجاه ملفات الإقليم: مستويات التمثيل تبدأ بالملك مرورا برئيس الوزراء وتنتهي بوزير الخارجية أو وزير الدولة لشؤون الإعلام ثم بسفير. وفي هذا تطابق مع الرواية السورية الرسمية.
لكن لم تتحقق أي من التمنيات الأردنية. لا أمن ولا استقرار ولا تركيبة حكومية من دون حسم إيراني في الملفات الثلاثة, بحسب مسؤول حكومي رفيع.
الأسوأ أن المعطيات الاستراتيجية التي اعتمدها الأردن لجهة حسم مستوى المشاركة لم تساهم في إزالة اللبس الشعبي والنخبوي الذي أحدثته الطريقة الضبابية التي لجأ إليها لتمرير مستوى تمثيله في القمة.
هناك رأي سياسي يقول بأنه كان على المملكة, وفي ضوء حالة الاستقطاب السياسي السائدة في المنطقة, أن تنفّذ عملية إخراج القرار بطريقة أكثر وضوحا وتجانسا مع الذات كما فعلت السعودية ومن بعدها مصر, اللتان أصرتا على مستوى تمثيل متدن من اليوم الأول للقمة لمعاقبة سورية على إفشال جهودها لحلحلة الملف اللبناني قبل موعد قمة "التضامن العربي"?
لماذا محاولة إرضاء سورية من خلال إرسال البشير للاجتماعات التحضيرية التي شاركت فيها مصر من خلال وزير دولة والسعودية من خلال سفير, هو ممثلها المقيم لدى جامعة الدول العربية? ثم محاولة إرضاء السعودية ومصر اللتين ربما لم تعجبهما مشاركة وزير الخارجية في اجتماع قرّرت الدول الثلاث تخفيض المشاركة السياسية فيه?
لكن الأهم أن القمة التي افتتحت أمس تحولت ببساطة إلى قمة تعميق التحدي بين العرب وبداية التكريس الفعلي لسياسة المحاور المتقابلة التي ستتعقد أكثر خلال الأشهر التسعة المقبلة بين انتهاء القمة وأفول ولاية الرئيس الامريكي جورج بوش الثانية. هذه الفترة ستوفر فرصة ذهبية لإيران وسورية للتأثير على سياسة واشنطن تجاه لبنان وفلسطين وعلى نتائج الانتخابات الامريكية الخريف المقبل. بينما يحاول العرب المعتدلون سحب البساط من تحت أرجل محور التشدد من خلال الدفع لإنجاز قواعد معاهدة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين, على أن يجرى تطبيقها في عهد الإدارة الامريكية الجديدة!
سورية وحلفاؤها سيصرون على أن القادة العرب الغائبين, الذين تصنفهم دمشق في خانة "حلفاء امريكا", شاءوا بغيابهم هذا أن يفشلوا القمة خدمة للأغراض الامريكية. لكن دمشق تجاوزت مسألة التمثيل العربي ونجحت في الانتصار عليهم, وعقدت القمة بمن حضر. تحتفل سورية وحلفاؤها بنصر إفشال محاولات امريكا لتعطيل القمة وتعطيل أي دور لواشنطن في إقرار جدول أعمال القمة أو في القرارات التي ستتخذها. وحقّقت انتصارا على معتدلين تحولوا إلى أداة في يد امريكا, التي طالبتهم بدراسة ملف المشاركة في القمة مرتين قبل اتخاذ القرار النهائي.
بالمقابل, ترد دول الاعتدال بأن سورية أفشلت الجهود التي حاولت السعودية, ومصر والأردن القيام بها خدمة للأهداف والمصالح العربية من خلال وضع "أسس صالحة" لعقد قمة تكون مدخلا إلى حل أزمات عربية لا إلى زيادة تعقيدها. كان من الممكن أن يكون تسهيل الحل في لبنان أنموذجا لهذا المدخل. وكان ممكن أن يساعد ذلك على توفير فرص نجاح للقمة, وربما أيضا ضمان مشاركة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري حسني مبارك والملك عبد الله الثاني.
لم توفر دمشق تلك الفرصة. وكان موقفها يراوح بين رفع المسؤولية وإلقائها على حلفائها في لبنان, مع أن الجميع يعي حجم النفوذ السوري عليهم, وبين تحميل السعودية الفشل لأنها لم تمارس المطلوب منها عبر الضغط على حلفائها.
برأي محور الاعتدال, فإن الخاسر الأكبر لقمة دمشق هي سورية والرئيس بشار الأسد في بلد نشأت فيه أجيال على نبض العروبة, لكنّه قرر حسم خياره النهائي لمصلحة محور إقليمي بقيادة غير عربية, واختار أن يضع مصالحه الوطنية في الساحة اللبنانية قبل المصلحة القومية العليا. يلي لائحة الخاسرين لبنان وفلسطين وأشلاء النظام العربي المنهار. حتى دول مجلس التعاون الخليجي لم تتفق على موقف موحد حيال مستوى المشاركة في القمة. الضغوط الامريكية لم تنجح كثيرا, مع أنها ضغطت على العراق الذي أوفد وزير خارجيته هوشيار زيباري, مع أن حكومته متحالفة مع ايران, فيما وظّفت السعودية ثقلها لإقناع الرئيس اليمني بعدم الذهاب شخصيا إلى دمشق.
أما التأزم المتوقع في العلاقات بين سورية والأردن بعد اليوم, فباستطاعة البلدين أن يتعايشا مجددا معه, وأن يستعمل كل منهما أدواته الضاغطة كما في السابق. وسيشعر بحجم انهيار العلاقات على مستوى جامعة الدول العربية بقايا العنصر العربي المحشور في شرق أوسط جديد, بين مطرقة التوسع الإسرائيلي المدعوم امريكيا من جهة وسندان التطرف الإيراني الذي يصر على تصدير أنموذجه إلى المنطقة على أنقاض العراق, آخر جدران العروبة التي وقفت في وجه أطماع طهران التوسعية, شرقا وإسرائيل غربا.
عن العرب اليوم .