الكرامة: بين برزخ الوطنية وفسطاط الليبرالية
د.مهند مبيضين
29-03-2008 03:00 AM
مرت أربعون سنة على معركة الكرامة، ومثلها على النكسة، أحدثت النكسة شرخا في جدار الفكر العربي، فصدرت الأفكار المعاينة لأسباب الهزيمة، بعد شهور، وكان ذلك مع اعمال كل من أديب نصور وصلاح الدين المنجد وصادق جلال العظم وغيرهم، وكان السجال حول الأسباب يملأ المنتديات الفكرية بين من يردّ أسبابها إلى الابتعاد عن الدين والله، وبين من يرى أنها جاءت بسبب الابتعاد عن التقنية والتحديث والعلم.
برغم أن الكرامة لم تكن بعيدة، إلا أنها لم تأخذ نصيبا من الجدل، ولا في الأدب ولا في السجالات والمراجعات الفكرية، كأنها النصر الغائب، برغم أنها كانت مؤثرة وحاسمة بعد انكسار الروح في حزيران 1967. كان الترويج للكرامة خارج الأردن بأنها كانت معركة الفدائيين الفلسطينيين مع إسرائيل، وهكذا صورت، فقبل عام كنت في جنوب لبنان في الذكرى السنوية الأولى لحرب تموز 2006، على هامش زيارة عمل اكاديمي، وحين قال بعض الحاضرين إن حرب تموز نصر تاريخي على إسرائيل لم يحدث من قبل، قلت: إن لدينا ما هو اسبق من ذلك وهو نصر الكرامة، البعض استغرب وبعض آخر استهجن وبعض ثالث رفض تسجيل الكرامة في سجلنا الوطني.
قسم آخر كان لا يرى انتصارات غير التي يحققها حزب الله، قلنا: هي انتصارات باسم الحزب، وإن كانت على عدو آثم وهجين وهو إسرائيل، إلا ان للحزب نظرة أخرى بها، قال من رفضوا ان تكون الكرامة لنا، إن قادتها فدائيو فتح، قلنا الفدائيون كانوا إلى جنب إخوانهم الأردنيين بقيادة البطل مشهور حديثة الجازي، قالوا نحن بدأنا، قلنا: وليكن لكم شرف البدء ثم التراجع للجبال بعد ان بذل الشهداء من الفدائيين الأرواح، وليكن لنا شرف الحسم، وعموما ليس هذا هو جدلنا فعلاقة الشعبين جميل أن تتجلى في الجدل على هوية نصر تاريخي على عدو مشترك، لكن ما هو غير طيب سلب الناس تاريخهم، وتحويلكم بلدكم - اي اللبنانيين- إلى دويلات طوائف.
لم يشأ من هم متعاطفون مع حزب الله ان يمرروا الأمر بتلك القسمة، طال الجدال، فقلت لهم انتم علنا تقاتلون باسمنا، أما باطنيا فأنتم وكلاء عن إيران، قالوا كيف، قلت في عام 1999 كنا في طهران في مؤتمر علمي عالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان معي من الأردن بعض العلماء، أنسيتم أن نائب حسن نصرالله آنذاك أهدى معركة الجنوب وجلاء إسرائيل والنصر الذي حقق لروح الإمام الخميني! اين انتصاراتكم إذن؟ وجموا بالحديث ونحن غادرناهم!
أعود للكرامة، نعني أني لم أشأ أن ادخل في الجدل الذي صاحب الاحتفاء بأربعينية نصر الكرامة، والنقد الفج لمن هم بين برزخ الوطنية وفسطاط الليبرالية من منطلق أن التاريخ كما هو واضح، لكن ثمة من يريد أن يندس فيه، ومن يريد التفاصيل فالكتب تزخر في المكتبات وهناك عمل توثيقي للدكتور بكر المجالي عن الكرامة وهناك شهادات جمعت في كتاب عن المرحوم مشهور حديثة الجازي يمكن مراجعتها وهنا روايات شفوية لمن عاصروها وساهموا فيها.
قراءات الكرامة في الخطاب التاريخي يجب ان تقرأ فكريا في سياق ما أصاب المشروع العربي من إخفاقات متتالية، إذ مثلت النكبة عام 1948 الانعطافة الكبرى لتراجع الفكرة العربية، التي أعادت هزيمة 1967تأكيدها، وما بين النكبة والنكسة كانت حرب السويس 1956، وكانت دولة الوحدة وبروز القائد الملهم الذي توج بفعل الثورات، بروز آل إلى تغييب العقل وإحلال الفردية والاستبداد في الحكم محل النزعة التقدمية التغييرية. حتى اذا ما وقعت النكسة وأراد السيد الرئيس جمال عبدالناصر الاستقالة بدعوى تحملة مسؤولية الفشل الكبير، هبت الجماهير العربية تدعوه أن لا يترك الشارع حائرا، دون قيادة. ليعود القائد تحت ضغط الجماهير التي كانت قادمة لتسائله عن مصير ابنائها في الحرب الذين اضاعهم وزير دفاعه وليس هو!
ليس هناك من مناص دون الاعتراف بقومية عبدالناصر وعمله من اجل الحركة العربية واخلاصه، ولكن ثمة حال عامة كان للمثقف العربي الدور الكبير في الإسهام بها، مما قاد إلى تلك النهاية غير المرجوة. ومع هذا لم يعدم المناخ الثقافي العربي جهود عدد من المثقفين العرب الذين استشعروا نذر الهزيمة، وأدركوا خطورة القادم، غير أن النظام السياسي لم يحفل بتلك النُذر.
كتب نجيب محفوظ في اعترافاته لرجاء النقاش:" لم يحدث في حياتي كلها، قبل ذلك أو بعده، أن شعرت بانكسار الروح، مثلما شعرت به في تلك اللحظة. وهنا يعلق محمد جابر الانصاري على قول محفوظ بقوله:" وانكسار الروح تلك هي كلمة السر في ليل الهزيمة الطويل، كما كثفها الروائي الأكبر للمرحلة. ومؤرخها الفني".
من بعد حرب 1956 ثم الوحدة عام 1958 ثم الانفصال، أجاد الشارع العربي استغلال الهزيمة العسكرية في العدوان الثلاثي وحولها إلى نصر سياسي انتهى بدولة الوحدة التي كانت تمثل تتويجا لذاك الانتصار الذاتي، الذي تزامن مع ثورة العراق. ثم بدأت علائم التصدع الكبير والانحدار.
بين الانفصال والنكسة أجرى المثقف العربي مطابقة لصورة الواقع في مرآة الأدب، فما بين عامي 1961-1963 كتب خليل حاوي قصيدته (لعازر 1962) وصدّرها في ديوانه "بيادر الجوع". وعازر في القصيدة شخصية انجيلية اعجازية ينبعث من قبره ويعود لزوجته وهو يحمل اليها في العودة خيبته وعجزه وعقمه، فإذا ما انبعث امام زوجته اكتشف بسرعة مقدار قلة حيلته وعجزه، بخلاف ما تتظاهر به الزوجة المسكينة أمام الملأ. هي قصة ما زالت مستترة تمثل حال القضية والمصير العربي في شخصية عازر، مجتمع عاجز ودولة غير ناجزة وقائد سياسي يعتقد أنه هو الحل أو كل الحل لمشكلات مجتمعة غير أنه هو الصانع لها.
يعلق محمد جابر الانصاري في كتابه "مساءلة الهزيمة.( ص23)" على تلك القصيدة بقوله:" وليس من باب المصادفة أن خليل حاوي سينتحر عام1982 في بداية الغزو الاسرائيلي لوطنه، كان مؤكدا بإماتة الجسد "موت الروح" المبكر قبل عشرين عاما وقبل النكسة.
لست هنا براغب في استعادة تاريخية النكسة، لكن يظل السؤال لماذا غابت الكرامة عن الفعل الإبداعي فكرا ورواية، ربما نكون نحن قصرنا، وربما يكون ورثة الشهداء بحتاجون منا إلى ان نمضي اليهم، وربما تكون حرب بيروت 1982 قد مسحت من ذاكرة المناضلين ما جرى في غور الكرامة صبيحة 21/آذار 1968، وربما تكون إخفاقات المشروع القومي وتحول الولاء إلى عمائم قم وطهران سببا كبيرا، وأكبر النماذج المرحوم عماد مغنية. وربما يكون حدث كل ذلك.
Mohannad.almubiadin@alghad.jo
عن الغد .