ليس فقط التونسيون وحدهم من يأمل بنجاح الانتخابات الديمقراطية في بلدهم، والتي جرت أمس؛ إذ ثمّة نسبة كبيرة من العرب والمراقبين والباحثين والسياسيين الغربيين يتابعون نتائج هذه الانتخابات ومؤشراتها، فهي امتحان حقيقي وجوهري لإمكانية زراعة النظام الديمقراطي في البيئة العربية.
خلال الأشهر الماضية، سادت نظريات واتجاهات سياسية عديدة تأخذ طابع السخرية من مصطلح "الربيع العربي"، وترى بأنّ ما يحدث في المنطقة العربية، بدايةً من العراق، مروراً بسورية، وعبوراً للبنان، وصولاً إلى اليمن، فليبيا، والحالة المصرية، كل ذلك مؤشّر على أنّ الشعوب العربية ليست مؤهّلة بعد لتطبيق النظام الديمقراطي.
وفقاً لهذه "الحكمة التاريخية" التي ورثناها عن الأنظمة السلطوية العربية، فإنّ النتيجة التي أدت إليها الثورات السلمية العربية لم تكن سوى بحور من الدماء والفوضى والتدمير والحروب الأهلية وانعدام السلم الأهلي والمجتمعي، وأخيراً.. "داعش"!
من هنا تأتي أهمية التجربة التونسية، وتعليق الآمال على نجاحها؛ بوصفه دليلاً مغايراً ومعاكساً تماماً لتلك النظريات والادعاءات. فالمجتمع التونسي الذي كان يخضع لأحد أفظع الأنظمة البوليسية في المنطقة، إن نجح في اختبار اليوم، سيكون قد حقق انتصاراً يتجاوز المشهد المحلي هناك، إلى المشهد العربي بأسره؛ بتكريس الانتخابات الديمقراطية وتداول السلطة والتعددية السياسية، عبر ذكاء وإدراك قواه السياسية، وعبر تجنّب المكائد التي نصبت في طريقه، في محاولة لاستنساخ النموذج المصري هناك.
بالضرورة، لا يمكن القياس تماماً على الحالة التونسية. وندرك مسبقاً أنّ بعض محبّي السلطوية العربية سيسارعون إلى القول إنّ المجتمع المدني التونسي يمتاز بالجذور التاريخية المدنية الصلبة، وبعقلانية الإسلام السياسي وبراغماتيته، وبضعف العامل القبلي فيه.
وقد يكون هذا الردّ منطقياً، لكنه سطحي وانطباعي. فلولا أنّ حزب حركة النهضة الإسلامي تعامل بذكاء مع القوى الأخرى، ومحاولات توليد "تمرّد تونسية"، لكان المشهد قريباً مما يحدث في مصر، بل ربما أكثر خطورة مع وجود جماعة "أنصار الشريعة" التي تنتظر الساعة التي يتدهور فيها المسار الديمقراطي. كما أنّه بالرغم من قوة المجتمع المدني التونسي، إلا أن هناك صراعا علمانيا-إسلاميا شديدا، وهنالك هويات فرعية ناجمة عن سياسات النظام السابق، وخلافات داخلية كبيرة؛ لكنّ الإدارة الناجحة للمرحلة الانتقالية كانت هي السبب الرئيس في نجاح هذا النموذج.
لو لم يقع الانقلاب العسكري في مصر، وانتظر الجميع إلى الانتخابات البرلمانية، وتكرّس مبدأ تداول السلطة والتعددية السياسية، ومضى مسلسل إدماج الإسلاميين في اللعبة الديمقراطية، لكان الوضع في مصر أفضل بكثير من الحال الراهنة، التي أعادت تدشين النظام الدكتاتوري بصورة أكثر فجاجة ودموية ومكارثية من أي وقت سبق.
والحال في سورية واليمن ربما كانت ستكون أفضل لو أنّ الأنظمة هناك لم تمانع التحولات السلمية المدنية، ولم تستخدم الجيش والسلاح والقصف في مواجهة المدنيين.
وقد كانت "القاعدة" في تلك المرحلة في أسوأ أوضاعها وأضعفها، وهي تجد الشعوب مقبلة على التغيير الحضاري السلمي نحو إقامة الأنظمة الديمقراطية. لكنّ القمع والقتل والإجرام وسدّ أبواب الحل السلمي وممانعة التحول الديمقراطي البنيوي الحقيقي، كل ذلك لن يؤدي -في مجتمعات ترزح أغلبياتها المجتمعية تحت خط الفقر وتعاني من البطالة والحرمان الاجتماعي والضغوط السكانية وفشل التنمية..- إلاّ إلى البحث عن خيارات أخرى راديكالية عنيفة في التغيير، وهو ما يخلق الظروف المناسبة لنمو نموذج "داعش" وانتشاره.
دعونا ننتظر نهاية الانتخابات التونسية. ونأمل أن تكون هي الردّ الحقيقي على كل من يريد أن تبقى المجتمعات العربية متأرجحة ما بين الفساد والسلطوية والفوضى والعنف والحروب الأهلية!
(الغد)