حين يخطر ببالي هؤلاء الأعلى صوتاً والأكثر إدعاء وزعماً بالوطنية والانتماء والذود عن الهوية، أتذكر قصيدة للشاعر الداغستاني رسول حزاتوف. يقول فيها أنه تعرف إلى ثلاث نساء وحين قرر الرحيل وذهب لوداعهن صرخت الأولى وولولت بصوت عالٍ، أما الثانية فقد كانت أقل صخباً من الأولى، لكن الثالثة هي التي بكت بصمت ثم أعتمدت رأسها بين كفيها.. ولهذه الثالثة عاد الشاعر وأطرف ما في تلك العودة أن حصانه هو الذي قاده إليها لأنه كما يقول شم بأنفٍ مدرب رائحة الصدق.
وهذا أيضاً ما حدث لكلورديليا في مسرحية الملك لير لشكسبير، فهي الابنة الصغرى التي لم تعرف كيف تحتال بإظهار عواطفها أو «مسرحتها» من خلال المبالغة وكما يحدث عادة فإن من يعاقبون وقد يحرمون من الميراث هم الأصدق مع أنفسهم أولاً ومع الآخرين بعد ذلك.
ولم نعد في هذا العالم العربي الذي أوشك أن يتحول إلى اطلال بحاجة إلى اختبارات ووطنية كالغزو والحروب كي نفرز القمح من الزؤان أو الشحم من الورم كما قال المتنبي. لأن من رسبوا في مثل هذه الاختبارات المتعاقبة نعرف بعضهم على الأقل وهم الأعلى صوتاً والأكثر غلواً وادعاءً، وهناك نكتة سوداء أفرزها علقم حزيران الهزيمة توضح ما أعنيه فقد قرر أحد الغلاة أن يحارب السيف حتى لو تطلب الأمر مواجهة دبابة لكنه اشترط على الحداد الذي اتفق معه على إنجاز السيف أن يكون طوله مترين تماماً، وحين ذهب ليتسلم السيق قاسه فوجده ناقصاً سنتمتراً واحداً، فرفض استلامه ودفع ثمنه، عندئذ قال له الحداد ما فكر به منذ اللحظة الأولى لكنه تردد في قوله كي يقبض ثمن السيف: لو كنت تريد أن تحارب فعلاً، لأخذت السيف كما هو وتقدمت نحو عدوك خطوة واحدة ليكون طوله ثلاثة أمتار!!
ان الغلاة هم دائماً مريبون ويثيرون الشك لدى من يسمعهم بأنهم يمارسون تعويضاً ما عما ينقصهم وهذا ما كان يقوله برنارد شو بسخرية عمن يتحدثون بإفراط عن الشرف في زمانه!
فكم كورديليا هذا الوطن العربي دفعت ثمن صدقها؟
وكم من الصادقين الصادقين أساء الناس فهمهم لأنهم لم يفعلوا كغيرهم ممن يجعجعون بلا طحين! ولو صدق من بالغوا في ادعاء الوطنية والانتماء بمقدار واحد بالمليون لما كانت تضاريس عالمنا العربي مستباحة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ومن جهة خامسة هي جهة هؤلاء الذين تكرست سيوفهم الخشبية على زوجاتهم وبناتهم وليس على طواحين الهواء كما فعل دونكيشوت!
(الدستور)