في العبدلي سوق قررت أمانة عمان نقله لمكان آخر، فاحتج العاملون فيه، وحصلت مناوشات مع أفراد الدرك والأمن أدت لإصابات وفوضى، واستخدام القنابل المدمعة، وفي إربد سوق آخر يحصل فيه الأمر عينه، وفي أماكن أخرى يتكرر المشهد، هكذا دواليك.
وبين تلك المشاهد، تقفز مشاكل أخرى، طلاب اليمن العائدون يحتجون، وعمال الموانئ في العقبة يعتصمون، والمتضررون من انقطاع الماء يهددون، وعمال البلديات يلوحون، وربما تخرج علينا خلال يومين أو ثلاثة قطاعات أخرى تطالب بما طالب به غيرها.
الكل يعتقد أنه على حق، والكل يطالب بإنصافه، والكل يشتكي، والكل مظلوم!، والكل يتحدث عن الفساد!، والكل ينتقد المتنفذين وأصحاب المعالي والسعادة والعطوفة، والكل منهم لا يثق بالحكومة وإجراءاتها.
تنتهي المشكلة في هذا المكان أو ذاك، بتدخل من مجلس النواب حينا، أو جهات مسؤولة ومسؤولين سابقين، أو روابط عشائرية حينا آخر، وفي أي مكان لا نسمع عن تطبيق القانون وسيادته، وإنما يقفز تطييب خواطر، والحصول على تعهدات وصرف وعود جديدة بعيدة عن منطق الدولة وهيبتها.
ترى، لماذا وصلنا لهذا الدرك من عدم الثقة، ولماذا وصل البعض منا لقناعة بأن الحكومات لا تستجيب إلا تحت الضغط، ووضعوا القانون والنظام جانبا أو على الرف؟!!، ولماذا بات البعض يعتقد أن الحكومات لا تستجيب إلا لمنطق القوة؟!.
من أوصلنا لهذا المنعطف، وكيف فقد البعض ثقته بالحكومة وإجراءاتها، وبات يعتقد أن الحكومات لا تمثله، ولا تعبر عن مشاكله ولا تحقق طموحه وأحلامه، ولا تريد منه إلا ضرائب وأموال فقط!!.
مشكلة الحكومات المتعاقبة أنها تذهب لحلول ترقيعية لأية مشكلة تقفز في وجهها، فلا تقوم بمعالجة عميقة لجذورها، وتعتمد على إبر المخدر، وحبوب التسكين لحلها، دون العمل على تنفيذ سيادة القانون، وجعله الحكم في أي خلاف.
فسوق العبدلي مثلا كان أمام أعين الحكومة بكل مؤسساتها وأجهزتها على مر سنين فائتة، وكان المكان الجديد للسوق موجودا طوال سنين مضت، دون أن يتم التفكير بنقل السوق إليه، فجأة خرج القرار، فأخبرونا أن سوق العبدلي (حسب الأمانة) غير ملائم بيئيا ولا جغرافيا ولا تنظيميا، والمكان الجديد أفضل وأحسن.
من حقنا أن نسأل لماذا تم السكوت طوال تلك الفترة عن مكان السوق (غير الملائم)، وكيف مُنح العاملون فيه تراخيص؟ وتحت أي مسمى أو بند قانوني كان يجري ذلك؟ ومن هي الجهات أو الأشخاص الذين استفادوا منه؟ وهل من يعمل في السوق هم أنفسهم الحاصلون على تراخيص للعمل فيه؟ ولماذا سهلت أمانة عمان لهم الحصول على رخص في مكان غير ملائم؟!، ثم عادت لاحقا لقول غير ذلك؟!.
قصتنا الحقيقية لا تكمن في إزالة سوق العبدلي مثلا أو بقائه، ولا في حل مشكلة عمال الميناء، وإنما المشكلة أعمق من كل ذلك، وهي تتعلق بهيبة الدولة وفرض سيادة القانون.
أعتقد أن كل القطاعات التي تعتصم وتحتج وترفض غير مسؤولة عما يجري، وإنما المسؤول المباشر والحقيقي عن كل ذاك هي الدولة بكل مؤسساتها، التي يتعين عليها إعادة النظر سريعا بسياساتها من كل النواحي ووقف سياسة الاسترضاء وشراء الولاءات والتعامل مع الناس حسب موقفهم من هذا الامر أو ذاك.
قصتنا الأساس وحجر الرحى في كل ما يجري غياب العدالة، وعدم ثقة قطاعات كبيرة من المواطنين في إجراءات الحكومة ومواقفها وسياساتها، وابتعاد الحكومات بشكل عام، والحكومة الحالية على وجه الخصوص، عن تحقيق حاجات الناس وطموحم، وتعزيز ثقة الناس بإجراءات الدولة، وتعزيز قيم المواطنة بكل أشكالها، وجعل القانون هو الحكم للجميع، والمحافظة عليه، وعدم التفريق بين غني وفقير، ووزير وغفير، ومواطن ومسؤول، والشفافية والمكاشفة والصراحة في كل ما يجري حولنا ومحاربة الفساد بكل أشكاله.
قولا واحدا، فإن الحل يكمن في تعزيز هيبة الدولة وسيادة القانون، وتعزيز قيم المواطنة.
(الغد)