أوكرانيا بين النار والسلام
د.حسام العتوم
18-10-2014 01:47 PM
لم يكن أحداً يتوقع بأن أوكرانيا الدولة المستقلة حديثاً عن النظام السوفييتي السابق والمجاورة والمشتركة مع روسيا بالتاريخ والحياة سيصلها نيران الربيع العربي الأسود خاصة بعد استخدام الفدرالية الروسية وبالتعاون مع الصين للفيتو (حق النقض) المخول لها في مجلس الأمن لصالح نظام دمشق ومن أجل منع حلف الناتو بقيادة أمريكا من تدميره من الخارج على غرار العراق وليبيا بحجة ديكتاتوريته وتطاوله على أبناء شعبه، وبدأت النيران تتصاعد في البلاد الأوكرانية المسالمة بالتناغم مع صعود التيار البنديري المتطرف من تحت جناح نظام فيكتور يونوكوفيج السابق الموالي لروسيا فجأة؛ فالرئيس الأوكراني بيترو باراشينكا كان وزيراً للاقتصاد والخارجية في عهده واختلف معه وجماعته على قصة دخوله الاتحاد الأوروبي والتمسك بصداقة روسيا بنفس الوقت بهدف المحافظة على تدفق الغاز بأسعار تفضيلية رغم الديون المتراكمة التي وصلت الآن إلى حوالي (5) مليار دولار تقريباً، وبموازاة استمرار تصاعد لهجة الحرب الباردة الإعلامية بين أمريكا ومعها عشيقتها أوروبا وبين روسيا التي تعتقد خلاف ذلك وتؤكد انتهاءها بالتزامن مع الهدم السوفييتي 1991 والتجديف باتجاه بناء عالم الأقطاب المتعددة والمتوازنة وردم استمرار القطب الواحد الأمريكي الراغب في السيطرة الانفرادية على اقتصاد العالم وعسكرته.
قرار الرئيس بيترو باراشينكا ومن خلفه الغرب في شن حرب على شعبه الأوكراني المتمرد شرقاً وجنوباً وعلى لغتهم الثانية الروسية المفضلة عندهم كما الأولى الأوكرانية هذا العام 2014 كلف بلاده حوالي (4) آلاف قتيل ونصف هذا العدد من الجرحى ومليون مشرد ومليارات الدولارات من أجل إعادة بناء ما هدمته الحرب في وقت غرقها بالديون، وكان الهدف منها بالطبع مد سيطرة سلطته بقوة السلاح على كل الأراضي الأوكرانية لتسريع تدفق المساعدات المالية الغربية ومنها الأمريكية لبلاده التي تعاني من عجز مالي كبير، والغريب هنا هو أن روسيا التي سارع الغرب في اتهامها بحادثة الطائرة الماليزية ثم صمت بعد ثبات فقدان الأدلة الدامغة، وبتوجيه تهمة إسناد مقاتلي الشرق والجنوب بالسلاح والرجال هي نفسها روسيا وليست الأمم المتحدة التي استقبلت المشردين وقدمت المساعدات الطبية وغيرها للجرحى من مقاتلي سلطة كييف الجديدة ومقاتلي المعارضة ولديها جاهزية إعادة بناء الشرق والجنوب الأوكراني الذي دمرته الحرب، وفي اللقاء الاقتصادي الكبير الأخير الذي جمع دول الاتحاد السوفييتي السابق في بيلاروسيا غاب عنه الرئيس الأوكراني باراشينكا وحضر سفيره بينما كان هو مشغول في لقاء مع الاتحاد الأوروبي في عاصمته كييف.
لقد نجح الرئيس بوتين بداية الأزمة الأوكرانية هذه في الانتباه لضرورة إعادة إقليم الكريم (القرم) بقوة الاستفتاء والدستور ولم يحرك حتى جندياً واحداً فكسبت بلاده الرهان وحافظت على أسطولها البحري في المياه الدافئة صاحب الأهمية الإستراتيجية العسكرتارية الهامة، وحقق نجاحاً آخراً بإطلاق مبادرة وقف إطلاق النار في أوكرانيا ولم يعتبر بلاده يوماً طرفاً في الصراع الدموي الذي دار هناك ويراد له أن يستمر، ومع هذا وذاك لا زال الإعلام الروسي يتابع وباستغراب تصريحات قادة أمريكان ومن البنتاغون تحديداً حول ما يسمى (بالعدوان الروسي العسكري) بحجة الاقتراب من قوات حلف الناتو في أوروبا بينما العكس هو الصحيح كما أعتقد فما هي الحقيقة؟ ولماذا لغة العداء هذه في زمن الحاجة للسلام والتنمية المستدامة؟
إذا ما دققنا في صورة ما يجري من حولنا من احداث على خارطة العالم سنجد أن روسيا مهذبة في سياستها الخارجية والعسكرية أيضاً فهي مثلاً لا زالت تعتبر أمريكا شريكاً في صنع السلام ولا تنصب لها العداء في أوكرانيا وتعتبر أن الجهتين المتحاربتين في أوكرانيا هي السلطة والمعارضة فقط، ورغم مبادرة الرئيس بوتين السابقة الداعية للسلام في أوكرانيا، ورغم لقائي مينسك ومن ثم إيطاليا الأخيرين إلا أن هناك أيدي خفية متنفذة مثل كالامونسكي وغيره ترغب في إدامة النيران لتحقيق مصالحٍ سياسية ومالية ذات علاقة أيضاً بتوريد السلام إلى داخل أوكرانيا، ومن أجل تحقيق نجاح في الانتخابات البرلمانية المقبلة وهي المتوقع منها أن تعيد التيار البنديري المتطرف إلى السلطة في كييف خاصة في ظل غياب تمثيل المعارضة الشرقية والجنوبية الموالية لروسيا حتى الساعة، ولقد لاحظ رئيس بيلاروسيا لوكاشينكا بأن الثورة الأوكرانية كانت موجهة ضد الناطقين باللغة الروسية، وهنا نتساءل وهل يمكن طمس لغة هي بحجم التاريخ والمجتمعات والمصانع والتجارة ونفس الحياة؟
مستقبل أوكرانيا الآن يكمن وكما أتصور في وقف القتال وإخماد النيران المشتعلة فوراً وقبول الحوار بين السلطة والمقاتلين المعارضين والاستعداد لترتيب أوراق الحكم الذاتي لأهالي الشرق والجنوب الرافضين قطعاً لمد سيطرة سلطة كييف تجاههم أو الامتثال بها في وقت يعتبرون فيه أن حياتهم ومنها السياسية والإنتاجية مرتبطة بمكان وجودهم وسكناهم وبعمقهم الروسي الإستراتيجي، والمراقب لما جرى في أوكرانيا من حرب حمقاء يستغرب غياب جدية عمل مؤسسة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بخصوص جرائم المقابر الجماعية الناجمة عن الاغتصاب والقتل الجماعي خاصة بحق النساء.
تبقى المشكلة الكبيرة التي تواجه أوكرانيا حالة أن تحقق السلام هي تأمين حاجتها من الغاز الروسي رغم الديون المستحقة عليها لروسيا والبالغة (4,5) مليار دولار، ورغم ضعف الوضع الاقتصادي الأوكراني برمته والشتاء الصقيع والثلوج قادمة وبدرجة مئوية سلبية تصل إلى (-20 – -30)، وبهذا فإن أوكرانيا باراشينكا لا تستطيع أن تجدف بقاربها السياسي والاقتصادي بعيداً عن الفضاء الروسي ولا تستطيع أن تقاطع روسيا أو تعاديها والعمل الديمقراطي السياسي يبدأ بالارتكاز على صناديق الاقتراع النزيهة والممثلة لكافة الديمغرافيا الأوكرانية ما عدا إقليم الكريم الذي عاد إلى غمده الروسي بقوة القانون والاستفتاء الشعبي كما أسلفت وأغلق ملفه إلى الأبد.
مؤتمر ولقاء مدينة سوتشي الذي تنظمه مؤسسة عالم روسيا في موسكو في الفترة الزمنية الواقعة منذ 2 – 5/11 نوفمبر المقبل وبالتعاون مع جامعة الأولمبياد والمتوقع أن أشارك به ممثلاً لجامعتي البترا والأردن سيبحث إلى جانب أوراق اللغة الروسية والعلاقة مع مدارس تدريسها والإعلام خارج الجغرافيا الروسية المسألة الأوكرانية بحضور ومشاركة علماء وسياسيين ومدرسين وصحفيين ورجال اقتصاد وغيرهم، ولدى روسيا رغبة بالاستماع لقادة الرأي العام من خارج أهل السياسة العاملين في مواقعهم المتقدمة، وشخصياً أقف مع السلام الدائم في أوكرانيا ومع توازن سياستها وديبلوماسيتها بين عمقها التاريخي الروسي والسوفييتي السابق وبين التجديف تجاه الاتحاد الأوروبي وأمريكا وشكراً.