أشياء كثيرة تبدلت منذ العدوان على غزة منها الأرقام، فهي كانت مكرسة لعدد الشهداء والجرحى والمشردين والبيوت التي دمرت لكنها الآن بالدولار والين واليورو، وقد يكون للشيكل أيضاً نصيب!
يبدو ما جرى لغزة وفيها كما لو أنه حدث قبل قرن، وصار وديعة لدى المؤرخين، فما قاله الشاعر ناظم حكمت عن أرامل زمانه وهو أن نسيان الموتى يكتمل بعد أقل من عام يحتاج إلى تعريب، فالعرب يكفيهم أربعون يوماً كي يعلنوا نهاية الحداد. ولأراملهم عدة هي فترة زمنية مقدور على اتمالها، وبانتظار ما سوف يحدث لغزة أو إحدى شقيقاتها عام 2016 أو 2018 تبعاً لتقاويم العدوان الإسرائيلي التي تخضع لاستراتيجية الإجهاض والتفريغ! كأن المجازر تَنْسخُ بعضها أيضا، قبل أقل من شهر كان الملايين الذين فرغوا للتو من المونديال قد وجدوا بمذابح غزة مسلسلاً يثبت باللحم الحي. أو فلم أكشن يخفف من شعورهم بالبطالة والفراغ.
وما تغير فقط على الشاشة هو الأسماء، فالآن داعش ومشتقاتها وغداً أو بعد غد لا نعلم إلى أين سوف يتجه سهم البوصلة. ولا أظن أن هناك بشراً يتمتعون بنعمة التناسي وليس النسيان كالعرب منهم لم يتعلموا من سفينة صحرائهم كيف يثأرون، ولديهم من فائض الزهايمر السياسي ما يكفي لأن لا يعرفوا كم فقدوا في أسابيع؟ ألف أم ألفان أم عشرون أم أربعة فقط!
لا أدري كيف يمكن لأب عربي أن ينظر في عيني ابنه دون أن يرتجف خوفاً على أيامه القادمة، وكيف يمكن لجد أن يُداعب حفيدته دون أن يصاب بالقشعريرة.. فالمستقبل أصبح أشبه بالكمين، لهذا من حق أي عازب مزمن أن يردد ما قاله المعري وهو هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد.
أما نحن الذين عشنا ثقافة التسول والتفكير بالوجبة القادمة فقط ، فقد أصبحنا براقش التي جنت على نفسها وأحفاد أحفادها أيضاً. ولا أعلم كم من جلود التماسيح يحتاج أحدنا كي يعيش ليأكل فقط، وتجرجره أمعاؤه بحبل من الغرائز، فهذه اللامبالاة التي جعلت من الإبادة مشهداً مألوفاً لا بد أنها من إفراز تاريخ غاشم، بحيث أخطأ الجراح فاستأصل القلب بدلاً من الزائدة الدودية.
الآن فقط أدرك ما الذي كان يعنيه المتنبي بالنعيم والشقاء فأحسد خروفاً يبرطع قبيل الذبح بدقائق وديكاً يصيح على مزبلة قبيل الذبح بظهيرة واحدة فقط!
(الدستور)