واحد منا من البؤس نصيب وحالات نفسية متعلقة به ، منها ما هو نتيجة الجهل ومنها ما هو نتيجة الطيش ، وأهمها ما هو نتيجة الظلم والقهر والعدوان ، كأن يحس الإنسان أنه متجرد من إحساسه محجور على عقله خاضع لوصاية تطال كل ناحية من نواحي حياته .
عند فكتور هوجو تخضع المجتمعات البائسة لعمليات منظمة هدفها نشر الجهل والظلامية بين صفوف الناس كبيرهم وصغيرهم .. رجالهم ونسائهم . وتستهدف هذه العمليات أول ما تستهدف فئة الأطفال واليافعين ، الذين هم روح المجتمعات وعدة مستقبلها .
تذكرت هذا الكلام وأنا اقرأ تقريرا للبنك الدولي يقول أن التعليم في مدارس الشرق الأوسط ينتج مزيجا خاطئا من القدرات ، مزيجا غير مرتبط بالتقدم وروح العولمة . ولم ينج من هذا التقرير – بشكل نسبي – إلا أربع دول هي الأردن والكويت وتونس ولبنان .
الإنسان بما هو قيمة عليا في هذا الوجود ، اكتسب قيمته الاستثنائية من قدرته على أن يتعلم وأن يكوِّن صورا ذهنية مجردة وآراء ومواقف تعبر عن وجوده وشخصيته ، بهذا استحق أن تسجد الملائكة له وأن يكون خليفة الله على سطح البسيطة .
فشخصية الإنسان ورأيه صنوان لا يفترقان ، بل إن الرأي مقدم على كثير من فضائله الأخرى ، مصداقا لقول الشاعر :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
وهل للإنسان ميزة في هذا الوجود إلا عقله ، وهل وظيفة عقله إلا أن يدرس ويحلل ويمحص ثم يكون رأيا وموقفا من كل كبيرة وصغيرة حوله في الوجود .
هذا مذهب أهل الدين وأهل الفلسفة والعلوم ، كل يحض على إعمال العقل وسبر أغوار الواقع ، حسا وتعلما ، سمعا وبصرا وفؤادا ، في طريق تراكمي بدأ منذ آدم ولن يقف إلا عندما تشرق الشمس من مغربها .
الدين يأمر بذلك ، وحسبنا ما قال الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام عندما سأل معاذ بن جبل عن ما يفعل في بعثته إلى أهل اليمن إن لم يجد دليلا من كتاب أو سنة ، فقال معاذ : أجتهد برأيي ولا آلو ، عندها حمد الرسول ربه وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله .
وعند الفلاسفة يأخذ الرأي مكانة متميزة كذلك ، ففي حديثه عن " آراء " أهل " المدينة الفاضلة " يبدو الحكيم الثاني غاية في الذكاء والفطنة ، وهو من خلال العنوان يربط بين الرأي والفضيلة ويقابل بينهما في صيغة تبدو شبه شرطية ، فما دام للإنسان في محيطه الذي يعيش فيه رأي وموقف ، فان طريق الفضيلة سالك ومنبت الإنسانية جزل ريان . وان حيل بينه وبين تكوين رأيه وسلب القدرة على التفكر والإبصار انعدمت الفضيلة وحل مكانها الفساد والخراب . ولنلاحظ هنا أننا نتحدث عن آراء ( بصيغة الجمع ) وليس عن رأي ( بصيغة المفرد ) ، وهي إشارة واضحة إلى التعددية والاختلاف ، وضرورة أن تنأى المجتمعات التي ترنو إلى الفضيلة بنفسها عن الوقوع في إسار رأي واحد ووجهة نظر مقيدة .
والرأي لغة مشتق من الرؤية التي هي أحد الحواس الخمس المعروفة وباب رئيسي من أبواب تغذية الذهن بالمعلومات . هذه المعلومات تتم غربلتها وتنقيحها ومقارنتها بالعلوم المكتسبة والخبرات المتراكمة لتصبح بالنتيجة حقائق ذهنية مجردة ، هي البصيرة .. أي الملكة الإنسانية التي نكون من خلالها موقفا حرا منبعه الفكر الخالص ورافده الإحساس المتوقد .
فالرؤية إحساس وتجميع ، والبصيرة إدراك وتجريد ، وكلاهما مرتبط بالآخر لا يستغني عنه بأي حال من الأحوال ، غير أن بينهما فرقا كبيرا ، هو الذي بينه علماء التفسير في شرح الفرق بين رؤية الله تعالى يوم القيامة وإبصاره ، فقد أثبتوا الرؤية ونفوا الأبصار لأن الله سبحانه وتعالى " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " . غير أنه يمكننا النظر إليه ورؤيته بدليل قوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة " .
فإذا ما انقطعت الصلة بين الإحساس والذهن ، أو غدت الحواس تصب عصارتها في أذهان معطلة خالية من نور العلم والمعرفة والقدرة على استخلاص النتائج ، إذا حصل هذا ضاع الرأي ودخل العقل في سبات عميق ، وغابت الفضيلة وانتشر البؤس والشقاء .
هذا هو الذي يحدث في أكثر الأزمنة وعلى امتداد المساحات الشاسعة من كوكبنا الأرضي ، انه احتكار الرأي وتوجيه الخلق توجيها أبويا صارما ، يطال فيه الويل والثبور كل من يحاول أن ينأى بإحساسه وفكره عن الوصاية والتبعية ويبني عالمه الفاضل مستقلا متمتعا بما وهبه الله من عقل وقدرة على التفكير .
ألا تحسون أن النظرية الفرعونية ما زالت حية وجذابة وان اختلف أسلوب الخطاب فقط وتنوعت آليات السيطرة ، فقد خاطب فرعون قومه قائلا : " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ، و فرعون هذا هو نفسه الذي وصفه القرآن الكريم في مكان آخر بقوله : " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم ، انه كان من المفسدين " .
انه مقابلة واضحة بين الحجر على عقول العباد والإفساد في الأرض .
تواريخ متعددة من التعتيم والتشويه ، والحريات المفقودة والأفواه المكممة والقهر والعسف والتزوير الإعلامي ، تتشابه جميعها في أهدافها وشخوصها ، ويختلف فيها فقط معطيات الزمان والمكان ودرجة الإفساد .
خلاصة القول : حيثما وجدت مدينة آراء أهلها مكبوتة فاعلم أن هذه المدينة مدينة بائسة ، وكلما وجدت نفسك خاضعا للون واحد من الحقائق ووجدت عقلك قاصرا عن تكوين موقف مستقل عن ما يحيط بك ، فاعلم انك أنت نفسك شخص بائس .
قد يكون لهذا الحديث بقية ، اعتمادا على ما سيلاقيه هذا الكلام من بؤس وشقاء .
samhm111@hotmail.com