قراءة في رواية "إبن الإنسان" للدكتور جورج الفار
12-10-2014 03:35 AM
عمون -
سيرة أم رواية؟
ثمّة سؤال يجول في الخاطر أثارته في ذهني قراءتي لرواية "ابن الإنسان"، هل هذا العمل محض رواية، أم هو سيرة ذاتية للمؤلف؟
وهو سؤال يستمد شرعيته من ناحية واحدة فقط، وهي أنّ القرار الحاسم في هذا العمل، قرار "أبونا جبران" ترك الكهنوت، هو قرار مرّ به المؤلف شخصياً.
فهل "ابن الإنسان" سيرة اشتعلت فيها الذاكرة باتجاه استرجاعي واستعادي؟ هل هي اعترافات؟
ولا ننسى أنّ العديد من الكتابات السردية الغربية قد تغذّت من السيرة الذاتية لكتابها، وركزت على كلمة "الاعترافات"، وجعلتها زاوية معلنة للسرد.
فهل كان هذا العمل استعادة نرجسية لماضي الكاتب؟
في تقديري هو ليس كذلك، بل هو عمل روائي بامتياز، ولا أقصد الانتقاص من قيمة أو جماليات الأعمال الأخرى التي تنضوي تحت مسمى "السيرة"، ولعلّ فالتقنيات المستخدمة في "ابن الإنسان"، ونمط البناء، وتناول الشخصيات، كلها تفضي إلى إدراجه ضمن مسمى "الرواية".
• التقنيات في ابن الإنسان
في هذا العمل، يقوم البناء السردي بأكمله ويؤثَّث على أساس أنه رسالة أكاديمية، فالراوي بنى روايته بطريقة بسيطة مرتكزاً على محورين: باحث، ومبحوث عنه.
الباحثة هنا (إسراء) شخصية أنثوية ذات حاجات إنسانية، وموضوع بحثها أو المبحوث عنه هو (الأب جبران)؛ شخصية محلية وتاريخية ذات بعد إنساني، تقدِّمها إسراء في اطار رسالة أكاديمية إلى الجامعة. وفي رأيي أنّ ما ميّز هذا البناء، على بساطته أنّ الشخصية الروائية الرئيسة جاءت هنا موضوعاً لرسالة ماجستير، وهو أمر مبتكر، وفيه تجديد عن البنى السردية السائدة.
لذا حاول الراوي في المدخل/ العتبة أن يقدم للقارئ ترسيماً عاماً لشخصية الأب جبران. كما رسَّم صورة أصيلة لإسراء مظهراً الصورة الجوانية للأنثى، فحفر عميقاً في داخلها: مشاعرها، وأفكارها، وجدل الأنوثة في مجتمع يشوِّه صورة الانثى حيال نفسها، ويعيد إنتاجها لتكون كائناً مهزوماً ناقصاً مهزوز الثقة، علماً أنّ معظم الإناث يقمن بوأد أنوثتهن في بواكيرها، ولا يدركن أنها الطبيعة التي ينبغي أن لا يخجلن منها.
تناول الروائي لشخصية إسراء عبر هذا العمل، من بدايته إلى نهايته، يدلّ على براعة الكاتب في ترسيم شخصيات روائية بعيدة كل البعد عن أن تكون نتاجاً متضخماً لسيرة ذاتية، جعلها تنبض بالحياة وتشعرنا أنها كائن من لحم ودم.
وكلما تقدمنا في قراءة الرواية، نلمس صراعاً يتنامى؛ صراع ما بين أنوثة إسراء وذكورة جبران، عبر طرح جريء، يمكن وصفه بـ"الثوريّ"، ناهيك عن تشخيص رائع للحب، وتأليه وبطولة تسبغهما إسراء على بعض شخوص الرواية، وربما لم تكن موجودة فيهم.
إلى هنا، جاء السرد مقنعاً ومتماسكاً، نجح الكاتب من خلاله في تشويق القارئ وإثارة فضوله حول شخصية الأب جبران.
من التقنيات التي استخدمها الروائي "الأنسنة" في بابي ذيل الفيل، والمنبر، فكانتا مكامن للدهشة، وأضفتا جماليات فنية بهية على مجمل السرد
وعندما أسبغ الروائي صفات بشرية على ذيل الفيل والمنبر، وذلك عبر إنطاقهما وانفعالهما وتفاعلهما، نجد هذه الجمادات تبوح بوحاُ تكلل بالصدق والجرأة والجمال. ناهيك عن المقصد الجمالي، فقد كان لهذه التقنية مقصداً فكرياً نجح الكاتب في إيصاله إلى المتلقي.
فصول الرواية وتقسيماتها
جاءت الرواية في أربعة فصول، ضمّ كل منها عدداً من الأبواب المرتبة بانسجام مع موضوع الفصل، وهو أمر يبدو بسيطاً لكنه ليس كذلك، فمواضيع الأبواب كانت توزن بميزان دقيق لتكون ضمن هذا الفصل أو ذاك، ففي الفصل الأول الذي يمهد لقرار الأب جبران بترك الكهنوت نجد الأبواب التالية:
- كاترينا الفتاحة: أضافت هالة من العمق الروحي والميتافيزيقي لشخصية جبران، أو كشفت ولمّحت لهذا الجانب.
- لم تحن الساعة بعد: مهّدت للجانب الفكري والصراع الإنساني الذي تعمق أكثر في باب "مسيح جبران".
- مسيح جبران: تكمن أهمية هذا الباب كونه وضّح الإيمان الذي كان يؤمن به جبران، والمختلف عن إيمان الكنيسة التي كان ينتمي اليها.
- بنت الجيران: أضاءت جانباً من طفولة وطبيعة ووسامة جبران.
- الشماس : يمهد لمسألة الصراع ما بين السلطة والحرية في البيئة الكنسية.
- راهبة : تضيء جانباً إنسانياً مهماً، فتحت أثواب الراهبة يوجد جسد امرأة، بينما جسد جبران يخبئ رجولة وذكورة.
- الثوب : فيه طرح عميق، صريح، وصادق وجريء
- مُعارض : يوضح الجانب الإنساني في شخصية جبران، ويبين أنّ هذا الإنسان لا يمكن أن تحكمه إقليمية أو طائفية ضيقة، ففضاؤه أرحب من ذلك، هو فضاء الإنسانية، لذلك لن يحتمل أن يحدّ من إنسانيته أيّ إطار فئوي، بالضرورة سينكسر هذا الاطار.
- عاشقة : توضح أن جبران هو إنسان، مثل باقي البشر، ومن الطبيعي ان يقع في الحب كما عرفنا هنا.
- سميحة : تكشف مدى وعيه بالطبيعة البشرية، وتقبله لها (مثلاً عن تصرفات المراهقات، يقول للمديرة : لا تخافي فالأمر طبيعي في هذه المرحلة).
- الكأس : اختلاف كأس جبران عن باقي الكؤوس ومفهوم الكأس ودم المسيح والورود كلها تؤدي إلى تكوين صورة مختلفة عن الأب جبران.
- الصعلوك : اشتياق جبران للحرية والانطلاق في الحياة وباتساع العالم.
- السيدة : رؤية جبران المدنية الشاملة ومشروعه لتطوير البلدة انتاجياً واخلاقياً (تمدُّن وانتاج).
والأهم في هذا الباب هو نظرته للمرأة والأنوثة، والتخفيف من عنف الذكورة، ينحو نحو الطبيعة البشرية بتجردها الراقي، بعيداً عن ما علق بها، تاريخياً، من مفاهيم خاطئة.
- الفنان : تصريحات جبران للفنان عن أنّ حياته مضبوطة من حيث المبدأ، لكنها تتمرد أحيانا كثيرة (على كل إنسان أن يجد طريقه تعبر عن مكنونات نفسه وإلا انفجر).
ملاحظة الفنان لقوة جموح وتمرد جبران وذلك من خلال حديثهما عن الفن التشكيلي وموقف الكنيسة (متحجرة لا تنتبه لحركات العصر).
وانتصاره للهدم من أجل خلق عوالم جديدة (الثورة داخل الفن والشعر)
- ذيل الفيل : لعلّ هذا الباب هو الأقوى فنياً، فهو في رأيي قطعة فنية رائعة، تصوِّر جبران مختلفاً عن السائد في حياة الدير والمدرسة؛ لم يؤمن بالعنف. ويأتي التساؤل في النهاية: "ألم يكن يعاني من الكبت الجنسي؟" على نحو يثير الفضول تجاه هذه الشخصية.
- إبراهيم : تعميق صورة جبران الإنسانية بما تحمله الكلمة من معانٍ سامية، يساعد ولا يفرق بين مسلم ومسيحي.
- فاليريا : اضاءة أخرى حول تعامل جبران مع المرأة، والذي يحمل نبلاً ورِقِياً.
ولنا أن نتمثل العذاب والصراع الذي دار في نفس جبران ليتمكن من ضبط نفسه وكبت جماح شهواته عندما تعامل سنوات مع فاليريا!!
- الزعيم : يوسِّع هذا الباب مجال معرفتنا بجبران، أخلاقه، طريقته في العمل مع الناس، واهتماماته (السياسية).
- البدوية : في هذا الباب تمهيد قويّ لاتخاذ جبران لقراره، فهو يدين بـ "دين الطبيعة" المتوافق مع فطرة الإنسان التي تعرف الله بعيداً عن المسلمات والطقوس الدينية.
- كرسي الاعتراف : فيه جانب من (التفكير الناقد) لدى جبران تجاه ما يحدث.
يقول في باب "كرسي الاعتراف" : "الأمر ليس ممتعا من حيث الجوّ غير الصحي". ثم يقول: "هل كان يؤمن حقاً انه يستطيع غفران خطاياهم؟".
- الطبيب : فيه المزيد من الكشف عن صفات وطبائع جبران، والتي تنضوي ضمن مسوِّغات قراره: سموّ جبران عن الطائفية والإقليمية والعنصرية، وإنسان ذو ذهن منفتح، نفهم ذلك من آرائه وتعامله التربوي.
يأتي بعد ذلك الفصل الثاني – القرار، فنجد الأبواب التابعة لذلك الفصل تتمحور حول الكيفية التي أعلن بها جبران قراره وما صاحب ذلك من مواجهات في نفس جبران، وأخرى مع محيطه، وجاءت على النحو المبين في كل باب مما يلي:
- المواجهة مع السلطة: لعل أهم مفصل فيه هو شجاعة جبران، فهو لم يخف من إعلان نيته ترك الكنيسة أمام جمع كبير من الكهنة والمطارنة.
ثم عودته ليعيش في البلاد نفسها دون خوف، وقبل ذلك كان المؤشر الأكبر على شجاعته وهو حسمه الصراع في داخله باتخاذه القرار.
- الضابط: وفيه إضاءة للصراع داخل عقل جبران، ودوافعه للقرار/ سؤال الحرية (لا أملك الا حياة واحدة أعيشها).
- الرئيس المباشر: في هذا الباب نجد واحدة من ردود الفعل على قرار جبران، وفي الوقت نفسه تشرح شخصية جبران والتي تفضي إلى القرار (لم يستطع المطران ضبطه ضمن القوانين المتعارف عليها) فكان الحرمان الكنسي ، وحملات التشهير بجبران، ولنا أن نتخيل معاناة جبران من ذلك، وهي معاناة ليست بسيطة، ما كان له أن يحتملها لولا نزوعه القويّ إلى الحرية والإرادة الجبارة لديه.
- أبو سليم: لم ينهزم جبران أمام المعيقات والصعوبات، بل نضج الطفل في داخله وصمد وقاوم مقاومة عنيدة.
- رائد: هنا وجهة نظر تدين القرار – وهذا أمر طبيعي؛ أن يوجد أشخاص يكرهون جبران ولا يوافقون على قراره.
- المنبر: جاءت محاولته أنسنة الجمادات كتقنية أدبية جميلة – فيه توضيح لأسباب القرار.
- أبونا سمعان: توضيح آخر لمبررات القرار وردة الفعل تجاهه من قبل زملائه ومن قبل الكنيسة.
- عائلة سلامة: اللافت أنّ الحديث أخذ منحى المرأة والعلاقات النسائية/ ربما هو مبرَّر في اطار الحديث عن العائلة.
- عاشق: باب مهم لأنه يعطي موضوعية للرواية، حيث هو نموذج للذين ناصبوا جبران العداء وهذا طبيعي كما أسلفنا، فلا بد من وجود الرأي والرأي الآخر (مع القرار، ضد القرار).
- الحجارة الحية: هذا الباب مهم وجذري في صناعة قرار جبران، فالناس هم الحجار الحية كما يراهم جبران، فهم الرعية الموجودة في كل مكان.
- بحيرة الياسمين: كيف لا يكون القرار مع كل هذا الحب؟! أو مع هكذا حب!
- الناسك: قرار جبران لا يعني أنه تبرأ من الإله، أو أنكره، فهو يراه ويعبده حسب فهم آخر، وهذا يؤكد نظرته إلى الرعية التي ما زالت موجودة في كل مكان، وليس في حرم الكنيسة فحسب، فهم حجارتها الحية.
- طروحاته: هنا فهم جبران الفلسفي، وآراؤه، كلها خيوط في نسيج القرار. ففي هذا الباب توضيح لفكر جبران (الحياة والكون في حركة دائمة، واذا لم نتقدم نكون عكس حركة الكون والحياة/ نتأخر)
- همه العام: المشاهد الثلاثة التي قدمها أحمد، تضيء لنا جوانب من حياة جبران بعد القرار: انخراطه في الهم العام للناس، ودفعه عجلة تقدمهم بمساهماته، تعددت منابره وانخرط في حياة الناس الحقيقية، ويتضح لنا أنه لم يخلع ثوبه الإنساني التقدمي سواء كان كاهناً أو غير كاهن.
- البطريرك: وفيه وصف لجرأة جبران في اتخاذ القرار، وثمة عصف ذهني حول تفسير هذه الجرأة يردها إلى عوامل ذاتية في شخص جبران، وعوامل أخرى موضوعية.
في (الفصل الثالث – من أوراقه الخاصة) نجد الأبواب:
- إلى أبي: وهو باب جميل ومؤثِّر، يجمع النبل والفروسية، تبين الآن من أين وكيف ورث جبران هذه الصفات.
- تقرير: صلاة جبران، يناجي الله ويتكلم بصوت عال وهذا ليس عابراً ولا منافقاً، يا ترى ماذا كان يقول بصلاته؟
- رسالة إلى الأنثى الأولى ليليت: من أهم أبواب الرواية، فيه بوح شخصي يربط مكونات الرواية بعضها ببعض، بحيث تصبح الرواية والراوي وحدة واحدة لا تتجزأ. يمكن أن نشير إلى أن اقتران التذكر بالأم يعتبر ثيمة حاضرة بقوة في النقطة التي يتقاطع عندها الأدب والسيرة الذاتية بأبعادهما الدرامية والإنسانية، لكنّ حضور الأب القويّ البهيّ شكّل معادلاً موضوعياً لحضور الأم.
لتشكُّل هذه الرسالة أفق النسيج السردي واكتمال خطابه المرتبط بحضور الأم، باعتبارها الوجه الآخر للمرأة، أي الوجه الذي لا تعوضه كل النساء مجتمعات.
أما الفصل الرابع – ثمرات، فتكمن أهميته في كشف البناء الفني للرواية، وفيه تتعمق إسراء في التحليل النفسي للوصول إلى القاع النفسي للبطل (الأب جبران) وتربطه بتحليلها لذاتها الذي يمكنها في النهاية من تحرير ذاتها من العقد المترسبة فيها والتي أورثها إياها المجتمع الشرقي.
شبكة العلاقات:
للوهلة الأولى تبدو الرواية كأنها قطعُ فنية منفصلة عن بعضها بعضاً، يمكن اعتبار القاسم المشترك بين الأبواب يتجلى في حديث الشخوص عن الأب جبران، بالإضافة إلى وجود ترابط آخر بينها، على سبيل المثال: (كاترينا الفتاحة – السيدة)، (إبراهيم – الطبيب)، (البدوية – الطبيب)، (عاشقة – عاشق).
كذلك خيوط الحملة التي شنت لتشويه صورة جبران، يمكن أن نلمسها حيث تتقاطع في أكثر من باب: (أبونا سمعان – الطبيب ، وغيرها)،
أخيراً لقد استمتعت في قراءة ومراجعة الرواية، وشعرت أنني أمام عمل جديد وطريف في موضوعه، يستحق أن يحظى بدراسات نقدية رزينة، ويستحق أن يتبوأ مكانته اللائقة في عالم الرواية .
مجدولين ابو الرب