قلناها مراراً ولا نملُّ من التكرار لأنه ليس من حق المريض أن يسأم من المضاد الحيوي ما لم تعود إليه العافية. إنها باختصار القدرة الخارقة لدى العربي على تحويل النعمة إلى نقمة، سواء كانت موقعاً جغرافياً أو نفطاً أو تعداداً ديمغرافياً. حتى الأعياد لديه من فائض القدرة ما يجعله يحولها إلى أعباء ثقيلة، وطقوس باهظة، لا علاقة لها بجوهر المناسبة، تماماً كما هو الحال في رمضان، فهو أصبح شهر التخمة وعسر الهضم وانفجار الزائدة الدودية إضافة إلى طوابير كالجراد تأتي على الأخضر واليابس. رغم أن حكمة الصيام هي العكس تماماً من كل هذا.
وما ترويه الأسطورة عن ميداس اليوناني الذي يحول التراب إذا لامسه إلى ذهب، أصبح معكوساً في الواقع العربي، فالسيد ميداس يلامس الذهب فيحوله إلى قصدير يلامس الماس فيحوله إلى نشارة خشب! ومن يقرأ التاريخ جدياً وفي العمق وليس لمجرد التسلية يجد أن معظم المؤرخين يجمعون على أن هناك قواسم مشتركة بين مراحل الانحطاط سواء تعلق الأمر بالعرب أو بغيرهم من الأمم.
ولو توقفنا عند واحد منهم أو اثنين مثل وايتهد وتوينبي، فإن ما يقولانه باختصار هو أن غياب هاجس المغامرة والسقوط في دوامة التقاليد والاتباع والعجز عن الاستجابة للتحديات سواء تعلقت بالبيئة أو الأعداء هي سمات الحضارات وهي تزحف نحو خريفها. فما كان في البواكير حافزاً ورافعة يتحول بمرور الزمن والاجترار إلى عقبة وبطالة.
وما تمارسه التقاليد الاجتماعية من سطوة على أدق تفاصيل الحياة يعوق البشر ويحشر أدمغتهم في قوالب ضيقة على الطريقة الصينية القديمة حيث كانت أقدام الأطفال تسجن في أحذية ضيقة كي لا تستطيل!
لهذا كله، أقسم بأنني سأقطع يدي اليمنى من الكتف إذا كان هناك عربي واحد يدرك ما الذي يجري الآن حوله وفوقه وتحت قدميه. وأقسم أنني سأقطع يدي اليسرى أيضاً إذا كان الإعلام العربي بشقيه الرسمي والشعبي يتوقع بناء على المقدمات والمعطيات أين سنكون بعد عشرة أعوام! لأن من إفراز مراحل الانحطاط ما قيل ذات يوم.. لا تفكر بأن لها مدبراً، وما يسقط من السماء تتلقاه الأرض، سواء كان قنبلة كالتي سقطت على هيروشيما أو مطراً من ضفادع وسلاحف!
إن خداع الناس الآن وفي مثل هذا الحال الذي جعل من وطن بمساحة قارة زنزانة هو خيانة عظمى، فالسيل تجاوز الزبى، لأنه بلغه قبل نصف قرن.. وما عدنا نخاف من الموت ليس لأننا شجعان بل لأن الحياة لم تعد عزيزة ولا كريمة!
(الدستور)