بالرغم من صدوره قبل قرابة 14 عاماً (في العام 1990)؛ إلاّ أنّ كتاب اللواء علي أبونوّار "حين تلاشت العرب: مذكرات في السياسة العربية (1948-1964)" (دار الساقي- لندن)، لم يأخذ حقه جيّداً في الأوساط الإعلامية والثقافية الأردنية والعربية، مع أنّه يتوافر على قيمة معرفية توثيقية تاريخية في غاية الأهمية، لإحدى أهم المحطات السياسية في المنطقة، والتي شهدت صعود التيارات القومية واليسارية، والتحولات في أنظمة الحكم في كل من سورية ومصر والعراق، وحرب الـ48 (النكبة)، والعدوان الثلاثي على مصر، والتوترات العربية-العربية، والعربية-الإسرائيلية، مروراً بالوحدة المصرية-السورية، فالانقلاب العسكري في العراق في العام 1958، وما يسميه المؤلف بحرب الشعارات.
على الصعيد الأردني، تبدو قيمة الكتاب أكثر أهمية ليس فقط من الناحية المعرفية في توثيق مرحلة مهمة وخطرة وحساسة، كانت لحظة مصيرية وجودية للأردن، بل حتى من الناحية السياسية والإعلامية. إذ يقدّم صاحب الكتاب جزءاً مهماً وأساسياً من الرواية الأردنية لتلك المرحلة.
في مذكّراته تلك، يروى لنا علي أبو نوار تفاصيل أحداث حرب 48، ودور الجيش الأردني، ومساهمة ضباطه، والخلافات التي حدثت بين غلوب باشا والملك عبدالله بن الحسين بن علي؛ ثم الصراعات بين الجناح الأردني والبريطاني داخل الجيش في تلك الفترة، والأسرار التي أدت إلى نشوء تنظيم الضباط الأحرار، وأبرز أهدافه وتطوّره مع بداية الخمسينيات، وصولاً إلى تولّي الملك الحسين العرش وتبنّيه لأهداف هذا التنظيم السرّي، ثم إسقاط ضم الأردن لحلف بغداد، وصولاً إلى طرد غلوب باشا.
ويضعنا الكتاب في قلب السجالات والنقاشات والاختلافات في أوساط النخبة السياسية الأردنية في الموقف من نوايا الملك الحسين مع نواة الضباط الأحرار، بتعريب الجيش؛ والحوارات السرية مع جمال عبدالناصر، ثم الخطة المحكمة لقرار التعريب، وما تلاه من خيبة أمل أردنية من عدم جدية الدعم العربي البديل عن المعاهدة البريطانية. وحينها، كان علي أبو نوّار رئيس هيئة الأركان المشتركة.
أحد أهم فصول الكتاب هو ما قدّمه أبو نوّار عما اعتُبر محاولة انقلاب عسكري في الأردن في العام 1957. إذ يضعنا في صورة الحيثيات والظروف التاريخية والتفاصيل المهمة التي سبقت تلك الأحداث؛ بدءاً من السبب الجوهري، ويتمثل في تخلّي جمال عبدالناصر والسوريين والسعوديين والعراقيين عن وعودهم بتقديم الدعم المالي البديل للأردن عن المعونة البريطانية، ما كان يهدد بإفلاس خزينة الحكومة والقوات المسلحة الأردنية، ثم الخلافات داخل أروقة الحكم في الأردن، وفي الوقت نفسه الضغوط الأميركية للقبول بالالتزام بمبدأ آيزنهاور، وتكفّل الولايات المتحدة بتقديم الدعم البديل.
ومع أنّ اللواء أبو نوار يترك في روايته بعض الشقوق وعلامات الاستفهام حول نوايا حكومات عربية، وحسمه بعدم وجود مشروع انقلاب داخل الجيش، مع عدم إنكاره لوجود تصرفات غير مفهومة من قبل بعض القيادات العسكرية خلال تلك الأيام، كما يكشف تفكير مصر وسورية فعلياً في الترتيب لانقلاب عسكري في الأردن، إلا أنه ينفي أي دور له أو تفكير بالقيام بمثل هذه الخطوة، بالرغم من أنّه قد حوكم غيابياً، قبل أن يعود في العام 1964، بوساطة الأمير زيد بن شاكر.
الكتاب وإن كان يحمل رؤية مغايرة في بعض تفاصيلها لما قدّمه لنا الباشا نذير رشيد في كتابه الشهير "حساب السرايا وحساب القرايا"، بشأن ما حدث في العام 1957، ولروايتي ضافي الجمعاني وشاهر أبو شاحوت، لكن قيمته الحقيقية تكمن في تقديم رؤية تاريخية-فكرية لمرحلة مهمة في تاريخ المنطقة بأسرها، فيها قدر أكبر من إنصاف الأردن والملك الراحل الحسين بن طلال.
(الغد)