قبل قرابة عقد ونصف العقد من الزمان - وكنت يومها اتردد على المدينة الطبية حيث ترقد شقيقتي التي غادرت اسرة المدينة الى آرائك الجنة - ان شاء الله - في تلك الايام... صادفني صديقان كانا يترددان على زيارة احد رجالات الحكم ممن عرفوا بعذوبة اللغة وجمال اللحن وجزالة اللفظ.. والذي كان يقيم في جناح كبار الشخصيات ممن قد ينجح المرض في اضعاف اجسادهم وليس نفوذهم..
فقال احدهم لي هل زرت صديقنا فلان؟ ترددت قليلا واجبت باني لا اعرف انه يقيم هنا.. فرافقت الزوار وانطلقنا الى حيث يقيم... سلمنا عليه وسألنا عن احواله، فاعتذرت له بدعابة قائلا انا اعرف انك هنا في المدينة، لكنني لم استدل على الجناح الذي تقيم فيه.. فاجابني بانه في نفس الجناح منذ دخل ولم يبدله.. فاردفت ممازحا ايضا: لقد جئت مرارا الى الجناح لكنني كنت اعود دون اكتراث لانني اجد كلمة جناح الرجال.. وانا ابحث عن جناح الرجال الرجال.. والتي شاعت في ادبيات الخطابة والاعلام في تلك الايام.
ضحك صاحبنا والحضور وانصرفنا وانا في فمي ماء منذ ذلك اليوم وقبله بكثير.. فامتنا لا مكان لها بين الامم مهما زينا الصورة وخطبنا وابتدعنا البطولات..
تاريخنا تاريخ هزائم واتهامات وخيبات امل.. وكل ما نبتدعه من حكايات لا تقنع اصحابها ولا مبتدعيها.. فالارض العربية مسلوبة.. ويتم ابتلاع ما تبقى منها يوما فيوم.. ومع ذلك لا نزال نتظلم وننتظر ان يتم اعادتها الينا..
كما اننا قبلنا بان يتولى امورنا اناس لا يستطيعون النجاح في تحقيق الوعد الذي قطعوه ويحملوننا المنة على الهواء والتنفس وفتح افواهنا.. فالعدو يزرع شبكات تجسس تعود للايام التي ادعينا اننا هزمناهم.. ولا نعرف كيف دخلوا بلادنا التي نعلم انها لم تكن محتلة.. فمن ساعدهم على الدخول وحتى اذا ما كانت الرواية صحيحة من اساسها...
الديون تتراكم علينا، الاموال التي تأتينا على هيئة مساعدات لم نصرفها لان لا تصورات لدينا.. حكوماتنا بارعة في التضييق علينا فهم يطاردون اخر دينار في جيوبنا.. وفي كل مرة تتغيب الحكومة عن اعلامنا بما بتعلق بشؤوننا..
يقرعوننا ويلوموننا باننا نقلق راحتهم متناسين بان الدولة بكل مكوناتها تعمل عند الشعب وان الشعب ليس شطرين؛ شرفاء وغير شرفاء كما توحي كلمات الوزراء ورئيسهم الذين يمطروننا كل يوم برواية جديدة و بخمس روايات مختلفة.
في بلدان العالم ما حصل يكفي لاستقالة كل الذين كانوا على طاولة المؤتمر الصحفي مساء الثلاثاء ونواب الامة الذين لا تسمع لهم صوت وان سمعته لا تعول على ما يقال.
للذي يحدث علاقة مباشرة في المزاج العام الذي يسيطر عليه القلق والخوف والاكتئاب وتزايد مشاكل العنف والجريمة والانتحار.. نسبة عالية من الاردنيين يتمنون لو تتاح لهم فرصة ترك البلاد.. وكثيرون منهم غير واثقين من المستقبل.. والعلاقة بين الدولة والناس علاقة تنقصها الثقة وتسودها الريبة والتشكيك.. ولو سألت العديد من الناس عن ثقتهم بصناع القرار لعجبت مما قد يجيبونك.
اطلالة المسؤولين لا تقدم ولا تؤخر ويصح فيها قول الشاعر:
"على ان قرب الدار ليس بنافع ...... اذا كان من تهواه ليس بذي ود"
فالناس، منذ عقود لا بل قرون، متعطشون الى من يحظى بثقتهم ويلتفون حوله، فهم يبحثون عن قدوة او نموذج في العلم والسياسة والرياضة والفكر والثقافة وحتى الانسانية...
لذا فلم تتوقف الامة عن البحث عن مخلص موثوق فهي تستذكر عمر بن الخطاب وصلاح الدين .. وخالد بن الوليد.. وابي در الغفاري.. وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم من رجالات ونساء تاريخنا السحيق...
في الحاضر لا احد جدير بالاستذكار فنهرب الى بل غيتس في الابداع وبيكاسو في الرسم وباخ في الموسيقى ومونتغمري ورومل في العسكرية وتشرشل في السياسة وجورج واشنطن في الديمقراطة وصياغة الدستور الذي جسد حكم الشعب للشعب وبواسطه الشعب.
في الرياضة منقسمون بين برشلونة وريال مدريد او البرازيل والمانيا وقضاء رحلاتنا بين انجلترا وباريس.. وحتى ملابسنا بين الايطالية والفرنسية وسياراتنا امريكية ام اوروبية او كورية...
الامة بلا بوصلة تحتاج الى من يوجهها.. جامعاتنا شكلية ولغتنا افرغناها من محتواها الفكري لانها لم تعد لغة الانتاج الحضاري فالابحاث التي تعدها مؤسساتنا البحثية اما بلغة غير العربية او انها ترجمة فقيرة من العربية او اليها.
لقد اضحينا نبحث عن النماذج في الموسيقى وابطال السينما ورجال ونساء الصحافة وبين الحائزين على جوائز غير المنح التي تصرف في بلادنا للاقارب والمحاسيب ودعاة الوطنية والانتماء.
النماذج التي تحترم في السياسة تم دفنها لحساب بعض الازلام والحكومات تحاول ان تحل ازماتها او تأجيل النظر فيها عوضا عن اخذ الامة الى آفاق تمنحها الامل وتكسبها مكانة بين الامم بالسيف والقلم.. من غير المعقول ان يبقى الناس يستجدون خبزهم وعملهم ورسوم تعليمهم وامنهم وحقهم في الحياة الكريمة بعد ان وصل العالم الى اعلى معارج التقدم المعرفي والاقتصادي والتكنولوجي.. كيف لنا ألا نحاسب انفسنا اذا لم يكن غدنا افضل من يومنا وامسنا..
وعلينا وعلى الجميع ان نتذكر ان السؤال مهما بدا غريبا وساذجا هو محرك النهضة والتقدم وسيادة العقل.. ولا سؤال غبي مهما اغضب المسؤول.. فالمسؤول يغضب عندما يكشف السؤال عن الهشاشة والضعف وتواضع القدرة التي يخاف المسؤول اكتشافها فيختبئ خلف سلطة القانون والبندقية ومفاهيم المواطنة التي تضيق لكي لا تستوعب غيره والمطبلين والمهللين لما يقول..
المجتمع القوي الواثق لا يخاف الاسئلة ففيها فرص لتجلية الحقيقة وتبديد الاشاعات اذا ما قدمت الاجابات التي تقود الجميع الى الوصول الى ذات الاستنتاجات التي يتوصل اليها المسؤول.