تعي الحكومة وكل دوائر صنع القرار لدينا ان مصداقية المسؤولين عند الناس تعاني من انهيار حقيقي، لا يجاريه انهيار، حتى بات كلام الوزير أو المسؤول مهما كانت صفته، غير مصدق، ومشككا فيه فورا، فما نعانيه اليوم حالة غير مسبوقة من انعدام الثقة بين الحكومة والناس.
تذهب الى "الحلاق" فيسألك "بأمانة انت مصدق انه ما في ذهب في عجلون؟!!"، تركب التاكسي فيقول سائقه "بلا كلام فاضي... يا عمي لقيو الذهب، وأنا وأنت عارفين"! تذهب لبيت عزاء او تقصد ديوان فرح، الجميع ليس لديهم الا حديثان: الذهب، و"داعش". وجميع الحضور يصبحون شهود عيان، ويقفز من بين الحضور من يقسم باغلظ الايمان ان بعض من كان موجودا في مكان الحفر، أخبره بوجود الذهب، وأبلغه بانه شاهده، وينسج قصصا وحكايات، ويتحدث عن شخصيات دخلت المغارة المزعومة، وحملت تماثيل، وخرجت، وشخصيات أخرى أشرفت على عملية النقل.
تخرج من بيت العزاء او الفرح، فتذهب للبقال، أو "السوبرماركت" أو محل اللحوم، او الميكانيكي، الكل مقتنع بوجود الذهب، والكل مقتنع أن الحكومة، وأطراف أخرى غيبته عن العين وصادرته.
المفارقة أن اطرافا دخلت على الخط، فهذا طرف يدعي أن إسرائيل دخلت وحفرت وأننا أمنا لها الحماية. ومن ثم أخذت من المنطقة ما تريد، وخرجت، والأنكى أن تلك الفئة تقدم نفسها باعتبارها ذات صدقية، والأنكى أيضا أن لا أحد من أطراف الدولة يسأل أولئك عن مصدرهم المزعوم أو يراجعهم بما يقولون، وتنضم أحزاب ونواب للمشهد والكل يدلي بدلوه.
ما يحصل "فوضى" توقعات ومشاهدات وقصص وفيديوهات، وسيناريوهات لا تتوقف، ويوميا تستمع لمشاهدات جديدة، وقصص وروايات، وكلها تذهب باتجاه تأكيد فكرة وجود الذهب.
القصة ليست لها علاقة بالناس، وليسوا هم المسؤولين عما يحدث، ولكن للقصة أسباب أخرى، تبدأ بانعدام الشفافية الحكومية، وتدني منسوب الثقة بين المواطن والمسؤول، وغياب العدالة والمساءلة والمحاسبة، والابتعاد عن الديمقراطية والإصلاح الحقيقي. وهذا بالضرورة سينتج اشكالا مشوهة أخرى، وبالتالي سيجد المواطن نفسه بعيدا عنها ومختلفا معها، وسيتعامل مع ذاك المنتج بعدم ثقة.
الناس تنسج مواضيع من الخيال، عما عرف بكنز "هرقلة"، حتى أنهم ربطوا تسمية القرية باسم هرقل، حاكم الروم إبان صدر الاسلام، وباتت حجم الموجودات أيضا حديثا وبابا للمزاودات، فقد بدأت القصة بكنوز بمئات الملايين، ثم تطور الأمر إلى عشرة مليارات لتصل في نهايتها الى كنوز تقدر بـ50 مليار دينار!
بطبيعة الحال أدى ارتباك الرواية الحكومية، ورواية المسؤولين المختلفين، بين من قال إنها أعمال عسكرية، ومن قال إنها توسعة للطريق ومن قال إنها انهيارات يجري معالجتها، لارتفاع حالة الشك لدى الناس، وتوسعت في الأثناء القصص والخيالات وحضرت الروايات التي لا تنتهي، في ظل غياب رواية حكومية واضحة.
عمليا، فان القصة ليست في الناس، وإنما في الفجوة التي كشفتها أسطورة ذهب عجلون بين المواطن والمسؤول، وبين الحكومة ورعاياها، فالناس يصدقون كل ما يشاع، لأنهم في ضميرهم لا يصدقون الحكومات المختلفة، ولا يصدقون رواية الرسميين، لأنهم يعرفون أن رواياتهم طالما كانت روايات مضللة لا تعطيهم المفيد، ولا تقدم لهم الحقائق كاملة من دون رتوش.
المطلوب وفورا إعادة الثقة سريعا بين المواطن والمسؤول، ودراسة الأسباب والمسببات التي أدت بالناس لذلك، ومحاربة الفساد بقوة، والقبض على الفاسدين، ووقف نهب قدرات البلاد ومشاريعها وأراضيها.
إن لم نفعل ذلك سريعا، ونقدم رواية متزنة واضحة حقيقية مقنعة لما حدث في عجلون، فإن الناس لن يصدقوا ما تقوله الحكومة، وفي هذه الحال، وفي ظل عدم التصديق الشعبي للحكومة، لا عجب أن نشاهد يوما ما كل مواطن حاملا فأسه، وخارجا للحفر في مكان ما بحثا عن ذهب وآثار تحت الأرض، ليس في عجلون وحدها، وإنما بكل بقعة في البلاد.
(الغد)