حـوار مع الإسلاميين (11) (داعش .. ليست جوهر المشكلة)
بلال حسن التل
01-10-2014 03:06 AM
كثيرة هي التحليلات والتفسيرات حول أسباب ظهور «داعش» ونموّها، وتحوّلها إلى مصدر قلق للعالم كله، ابتداءً من القول بأنها ومثيلاتها ليست أكثر من صناعة أمريكية، وان الولايات المتحدة الأمريكية هي من أسسها ورعاها وجعلها تنمو إلى ان وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، لتحقيق الكثير من الأهداف الأمريكية، في طليعتها مزيد من التدخل في شؤون المنطقة، وأكثر من ذلك إعادة تقسيمها إلى «كنتونات» طائفية ومذهبية هزيلة، تبدو إسرائيل بالمقارنة معها دولة عظمى، وفي أسوأ الحالات لا تختلف عنها من حيث انها كلها بما فيها إسرائيل «كنتونات» قائمة على أسس طائفية ومذهبية رافضة للآخر، بل لقد ذهبت بعض التحليلات إلى التأكيد على ان زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي، ليس أكثر من ضابط موساد تم تدريبه وتأهيله للقيام بدور خليفة المسلمين؟!.
مدرسة أخرى من مدارس التحليل والتفسير ذهبت بالاتجاه الآخر، فاعتبرت ان «داعش» صناعة إيرانية ـ سورية، كان الهدف منها ضرب المعارضة السورية والجماعات المسلحة العاملة على الأراضي السورية من داخلها.. وبين هؤلاء وأولئك هناك من يتهم تركيا وقطر بتسمين «داعش» لتكون أداة تصفية للنظام السوري.
إذن نحن أمام جملة من التفسيرات والتحليلات المتناقضة والمتضاربة حول حقيقة ظهور تنظيم «داعش»، ومن ثم نموّه إلى هذا الحد الذي يصوره الإعلام العالمي على انه خطر يهدد العالم، وهو ما ذهبت إليه الولايات المتحدة الأمريكية التي دعت إلى قيام تحالف دولي لمواجهة هذا التنظيم، ثم أعلنت عن حاجتها إلى ثلاث سنوات للقضاء عليه. وهي مدة لا تقل كثيرًا عن المدة التي استغرقتها الحرب العالمية التي دارت بين دول كبرى في العالم، قُسمت يومها إلى دول الحلفاء من جهة، ودول المحور من جهة أخرى، فهل صار تنظيم «داعش» وحده موازيًا لأحد معسكري الحرب العالمية حتى يحتاج إلى كل هذه الدول، وكل هذا الوقت للقضاء عليه، بل لتحجيم قوته كما ورد على لسان أكثر من مسؤول غربي؟!.
إننا ونحن نستعرض مجمل التحليلات والتفسيرات لظهور «داعش»، لا ننكر انه من الممكن في لحظة من اللحظات ان تتقاطع المصالح المتضاربة، فتعمل مرحليًا مع بعضها للاستفادة من لحظة هذا التقاطع. كما يجب ان لا يفوتنا ان جزءًا كبيرًا من هذه التحليلات والتفسيرات هي تحليلات وتهويمات صحفية، لا تستند إلى معلومات حقيقية في بلادنا خاصة، حيث تتراجع المهنية والموضوعية. فقد صار من المعلوم ان الكثير من الكتّاب في بلادنا يكتبون ويحللون، إما وفق هواهم أو مسايرة للموضة، ففي بلادنا أصبحت حتى الكتابة وموضوعاتها في كثير من الأحيان مجرد موضة ومسايرة للموجة، أو ان ما يكتب لا يعكس إلا انطباعات لأصحابها غير مبنية على وقائع. ونحن هنا لا يجوز ان نغفل عنصر التسريب المتعمد عبر الصحافة وغيرها عن أسباب ظهور «داعش» ومثيلاتها.. فهو أمر أكثر من وارد، بل هو مستمر من جهات يهمها تغييب الحقيقة قدر المستطاع خدمة لأهدافها.
ما يعنينا من الحدث عن أسباب ظهور «داعش» هو ان كل التفسيرات المطروحة تجاهلت سببًا رئيسًا، هو قابلية هذه المنطقة من العالم في وقتها الراهن لظهور مثل هذا التنظيم، واستعدادها لتقبله بل واحتضانه لأسباب كثيرة، في طليعتها هشاشة البناء الفكري لمجتمعات المنطقة، وتفسخ البنية الاجتماعية لهذه المجتمعات، وانتشار الإحساس بالإحباط والتهميش بين أبنائها مما يجعلهم عجينة قابلة للتشكل وفق رغبة الخبازين.
وهنا نحب ان نستعين بتفسير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي للمرحلة التي خضعت فيها بلادنا للاستعمار الغربي عندما أشار إلى أن المشكلة لا تكمن في الاستعمار، بل بقابلية الشعوب المستعمرة لهذا الاستعمار بفعل ضعفها، وتخلفها، وفرقتها، وتمزقها، وهي ذات الأسباب التي تجعلنا نقول: إن المشكلة ليست في ظهور «داعش» وأخواتها، ولكن المشكلة تكمن في حالة الضعف الشامل الذي تعيشها الأمة في كل مكوناتها، خاصة الفكرية، والاجتماعية، والتي تشكل بيئة تساعد على نمو هذا الفكر المتعصّب الذي أفرز كل هذه التنظيمات المتعصبة، وهنا استطيع الجزم بأن التعصّب ومعه التكفير كانا سمة ملازمة لكل مراحل الانحطاط الحضاري التي مرت بها أمتنا، وهي المراحل التي لم يكن يتم الخروج منها إلا بعملية نهوض شامل، تبدأ بالمواجهة الفكرية مع التخلف لتجفيف منابعه التي هي منابع التعصّب.. وأبرز مثالٍ على ذلك هو مرحلة الحروب الصليبية، حيث استغلت أوروبا تخلف الأمة وانحطاطها الحضاري، فجاءت لاحتلال المنطقة وتمزيقها، وهو بالضبط ما يفعله الغرب الآن.. «جزيتك حذو النعل بالنعل». وهو نفسه الانحطاط الذي قاد إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية ليكون من جديد مدخلاً لعودة الغرب إلى المنطقة للتمزيق وما زال.
ما أريد أن أقوله: إن «داعش» ليست هي جوهر المشكلة، لكنها مظهر من مظاهر المشكلة الحقيقية التي تتمثل في ضعف الأمة. وهو الضعف الذي يشكل أرضية قابلة للتوظيف من كل من يلوّح لأهلها ببارقة أمل للخروج مما هم فيه.
كما يمكن أن يوظفه كل أصحاب المشاريع والطموحات لتحقيق طموحاتهم ومشاريعهم من داخل المنطقة ومن خارجها، بما في ذلك تنظيم «داعش» الذي هو تعبير حقيقي وصادم عن حالة الانحطاط الحضاري الذي تعيشه الأمة، خاصة في جانبه الفكري، وسلوكه الاجتماعي.. ومن المعلوم أن الانحطاط الفكري والسلوكي يؤديان إلى انحطاط اقتصادي وسياسي، أبرز أسبابه ونتائجه في الوقت نفسه ضعف سلطان الدولة القادرة على ردع المتعصبين عن ممارساتهم ضد الآخرين، وهو الردع الذي لا يتم بالقوة العسكرية فقط. بل بتحصين المجتمع بالفكر المضاد للتعصّب، القادر على تجفيف منابع التعصّب والتكفير، ومن ثم معالجة البيئة الحاضنة للتعصّب والتكفير.
ما أعنيه هنا أننا بحاجة إلى إعادة بناء وعي الأمة وتنويره بفكر العدل والاعتدال، والمساواة في الحقوق والواجبات. وكذلك التسامح والقبول بالآخر. في ظل الدولة القوية الجامعة لأبنائها على قاعدة المواطنة.
(الرأي)