عمون - أصدرت الكاتبة السورية ذات الهوى اللبناني غادة السمان قبل عقود كتاباً بعنوان لا بحر في بيروت، وتذكرت عنوان الكتاب على الأقل قبل أيام وأنا أبحث عن بيروت في بيروت، فشارع الحمراء حمل مقاهيه القديمة والمثقفين الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس وهاجر إلى مكان ما. وأصبح عدد المتسولين وما سمي الأحذية ضعف عدد المارة، وهم على الأغلب من السوريين الذين لجأوا إلى لبنان ولأن بعض المدن تصيب عاشقيها بالنوستالجيا فقد تعمدت المرور أو الجلوس بكل المقاهي التي اقترنت أسماؤها بأسماء شعراء وروائيين ومسرحيين ورسامين وسينمائيين. ومعظم هؤلاء رحلوا عن عالمنا إما بسبب المرض والشيخوخة أو قهرا لأن ما جرى لأبهى عواصمنا يعصر القلب ويدمر الأعصاب، وكأن هناك حملات بربرية استهدفت هذه المدن، وحولت أجمل ما فيها إلى خرائب وأطلال.
لم يتبق على قيد بيروت من بيروت غير معالم عصية على الحذف، مكتبات عمر بعضها أكثر من سبعة عقود ودور نشر منها ما قضى ومنها ما ينتظر، وقبل أكثر من عشر سنوات كنا نشارك في ندوة لليونسكو ببيروت ودعانا الراحل الحريري إلى منزله في قريطم وأذكر أنه سألنا عما وجدناه جديداً في بيروت، وكان معي الصديق الراحل أبو عزمي (محمود الكايد) وهمس بأذني عبارة دفعتني إلى التردد في الإجابة.. ثم إلى الامتناع عنها. ذلك لأن الرجل الذي دعانا إلى منزله لا يتوقع على الإطلاق إجابة كالتي فكرت بها.
أما تذكري لكتاب غادة فسببه أنني أحسست بأن لا بيروت في بيروت. وهو الإحساس ذاته إزاء دمشق وبغداد وغيرهما من عواصمنا التاريخية وحواضر حضارتنا. فأنا لا أعرف كم تبقى من بغداد في بغداد ومن دمشق في دمشق؟
وقد يقول البعض أن لكل منا بيروته أو دمشقه وبغداده.. وجيلنا الذي عرف هذه العواصم في ربيعها الأخضر لا الأصفر يبحث فيها عن أناس لم يعودوا في هذا العالم وعن روائح انقرضت وتلاشت لتحل مكانها روائح جديدة تزكم الأنوف.
كانت بيروت ذات يوم نداهة العرب، وقبلتهم السياسية والسياحية والثقافية، لكنها بمرور الزمن أصبحت ضحية العرب جميعاً الذين تحاربوا فيها وليس من أجلها فأعادوا انتاجها بطبعة صحراوية.
وبيروت واحدة من أندر المدن التي تشم رائحة من يحبها فتعطيه مفتاحها، لكنها تبخل بهذا المفتاح حتى على من ينفق الملايين في ملاهيها وصالوناتها فما أشبه المدن الذكية بالنساء! (الدستور)