من حقّ أيّ عربي أسلم أمره لأولي القهر، ولكل من ينوبون عنه في كل شيء باستثناء الموت، لأنه ينوب عنهم في هذه المهمة، أن يقول لآلاف الباحثين والخبراء والاستراتيجيين الذين تلخصت خبراتهم في ست هزائم على الأقل: بلّوا أوراقكم وكتبكم كلها واشربوا عصيرها، ذلك ببساطة لأن كل ما وعد به لم يتحقق منه شيء والعكس هو الصحيح. فقد وعد بالرفاهية فجاع وبالصحة فلم ينعم بها وبالكرامة فلم يجدها وبالانتصار فلم يذق له طعماً تماماً كما قال أحمد شوقي في مسرحيته عن كليوباترا..
ظفر في فم الأماني حلو.. لكن الحقيقة هي أن الموعود به لم يحصل على قلامة ظفر منه!
وقد لعن هذا العربي المتورط بِشَرطيْه التاريخي والجغرافي من المهد إلى اللحد سايكس بيكو قرناً من الزمن، لكنه الآن يمتدحها ويتمنى استمرارها كي لا تنشطر أوطانه كالأميبا ويصبح للجامعة العربية إذا قدر لها البقاء على قيد الحياة تسعون علماً وعَلَم!
من حقه أن يقول لليساري الذي ضحك عليه نصف قرن بِلَّ كل ما كتبت أنت وأمينك العام أو الخاص واشرب ماءه.. وأن يقول لليميني أنت الذراع أو القدم الأيمن للديناصور ذاته. وأن يطالب الليبرالي بشرح معنى هذه الكلمة التي أصبحت أشبه بحجاب يبحث عمن يفكك طلاسمه..
قبل عدة عقود نشر في إحدى الصحف البريطانية كاريكاتور عن عربي يجلس في خيمة وعلى مقربة منه بعير وموقد نار ثم أصبح في كوخ وبالقرب منه خروف والرسم الثالث لبيت من حجر أمامه حنطور، وآخر الرسوم بيت فاره يعج بمنجزات التكنولوجيا وتحيط به السيارات الفارهة إضافة إلى طائرة خاصة..
أما آخر رسم فهو خيمة وبعير وموقد والمقصود بهذا الرسم المتدرج أن العربي سيعود ذات يوم إلى حيث ابتدأ، لكنه لن يجد الصحراء لأنها سحبت من تحت قدميه كسجادة ولن يجد البعير لأنه في حديقة الحيوان ولن يجد الحصان لأنه انتهى إلى السيرك. لهذا من حقه أن يقول لمن كتب عن الحداثة وهو يجلس قرب محراث أبيه بلّ ما كتبت واشرب حبره، وأن يجمع كل ما كُتب من توقعات عما سيصل إليه العرب في الألفية الثالثة ويشعل فيه النار كي يقطع المسافة بين غرفة النوم والحمام حين ينقطع التيار الكهربائي، فالعالم العربي الآن يصارع الكهرباء بدلاً من الإمبريالية، ويقايض الحرية كلها برغيف أو قسط مدرسة أو فاتورة مستشفى كي يدفن أمه المحجوزة في المشرحة.
وأخيراً ليغنّ مع فيروز
كتبنا وما كتبنا يا خسارة ما كتبنا!!!
(الدستور)