في مثل هذا اليوم قبل نحو 44 عاما رحل الرئيس المصري العروبي جمال عبد الناصر وأحداث ذلك اليوم ماثلة أمامي كأنها الان !!
نختلف ... أو نلتقي مع عبد الناصر إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر انه كان ظاهرة استثنائية في القرن العشرين .
.....................................................
مع اطلالة فجر التاسع والعشرين من أيلول 1970 ... وفي عمان العاصمة ... كانت رائحة الموت تزكم الانوف والأدخنة تتصاعد في سماء المدينة .. جراء الحرائق المشتعلة والناس هدها التعب من السهر والخوف والترقب !!
انه أيلول ..
ولأيلول حكاية لم أكتبها بعد
لكنها ستكتب حتما في العاجل القريب قبل أن يقضي الله أمرا كان مفعولا !!
..............................................
كان بيتنا المكون من غرفتي نوم احداهما خاصة بي وتتحول في النهار الى (غرفة ضيوف) والاخرى غرفة نوم والدي ووالدتي ... وهناك حوش في بدايته بجانب المدخل الرئيس دورة مياه ... ومطبخ واسع اقتطع منه "حمًام" ...
في السادس عشر من أيلول 1970 أوعز لي أخي الوحيد والكبير ــ رحمه الله ــ وكان ضابطا بالدفاع المدني أن آخذ عائلته (زوجته وابنته وأولاده الثلاثة) الى بيتنا لانه أكثر آمانا من بيتهم الواقع في منتصف جبل القلعة المقابل لجبل القصور ــ حسب تقديره ــ ضمني ولم يتمالك دموعه وهو يقول لي (وصاتك الابناء) وأعرف أنك رجل وتتحمل المسؤولية ...
كنت لتوي أكملت الثامنة عشرة من عمري ... بكيت بصمت وهو يودعني وأنا أدرك أن أخي يعرف ما لا أعرف ...
غادرت مبنى مديرية الدفاع المدني متوجها فورا الى بيته ونقلت لزوجته ــ رحمها الله ــ توجيهات أخي بضرورة أخذهم الى حي المهاجرين حيث يقع بيتنا في الشارع السفلي منه ..
أذكر أننا أخذنا المذياع الكبير بكيس من الخيش ... لكي لا ننازع والدي على راديو الترانزستور الوحيد الذي كان رفيقه الدائم
صدقا ... شعرت بعبء كبير على كاهلي ...
والدي كبير بالسن ... وكذلك والدتي
أبناء أخي أطفال ... اعمارهم على التوالي 14 ‘ 9 ‘ 6 ، 4
اخترت الحمام ــ على ضيقه ــ لكي يكون ملجأ لنا نحتمي فيه سيما وان جدرانه (دكة) قوية ...
وتبدأ المعاناة عندما تصر ابنة أخي (14) سنة على التمدد فتأخذ حيزا كبيرا بالنسبة لتواجد والدتي وزوجة أخي وأخوتها الثلاثة ... وهنا تبدأ مناوشات الصغار الذين اعتادوا على القصف المتواصل ودوي المدافع وقذائف الدبابات وصواريخ جراد والكاتيوشا ومختلف أنواع الاسلحة من دوشكا و500 ورشاشات تلعلع بدون توقف .
الوحيد الذي لم يتقيد بالاختباء هو والدي ...
.............................................................
نتابع رواية الاحداث بالتفصيل في وقت لاحق ...
.............................................................
عندما نخلد الى النوم .. كنت وبرفقة أمي وأبي ننام في غرفة واحدة ونترك الملجأ أو المخبأ (الحمام) لعائلة أخي ... وتتولى (أم احسان) مهمة الفصل والنزاع ما بين الصغار (بحز ... لا ما بدي ابحز !! ضبي رجليك ِ ... لا هيك اريحلي ) الى أن يغشاهم النعاس ... فيستسلمون له مرغمين !!
.........................................................
كان والدي يحتضن المذياع الترانزستور ..
ولا يجرؤ أحد أن ينازعه عليه ...
استيقظت فجر التاسع والعشرين من أيلول ...
سحبت الترانزستور بخفة ورشاقة من جنب والدي لكي لا يستيقظ ..
فتحته على اذاعة عمان ... واذ بها تبث القرآن الكريم ..
حولته الى اذاعة صوت العرب ... واذ بها كذلك تذيع آيات من القران الكريم ..
حولته الى اذاعة دمشق .. كانت أيضا كسابقتيها
اذاعة الرياض كذلك ... ما تركت اذاعة الا وادرت القرص عليها ...
تساءلت : هل هبط الايمان والتقوى فجأة على الاذاعات العربية
استيقظ والدي ..
سأل شو في أخبار ؟
قلت : كل المحطات تبث آيات من القرآن الكريم ..
قال اعطني "الراديو" ...
ففعلت ..
فتح فورا على محطة الاذاعة البريطانية (BBC) وكان يثق باخبارها ...
فجاء وقع الخبر كالصاعقة ...
وفاة الرئيس جمال عبد الناصر !!
يا الله ..
يا الله ...
استيقظت أمي وهي تسأل بصوت عالٍ : شو في ؟
أخبرها أبي ..
ثم طفقا بالبكاء ...
................................
ما أصعب أن يشاهد الابن بكاء والده أو والدته ..
وبالاخص والده !!
علمونا أن الرجال لا يبكون !!
ولم أدرك أن الرجال ينتحبون أيضا !!
لم اتحمل ... خرجت فورا الى الشارع
واذ بجموع رجال الحي ونسائهم وبناتهم واطفالهم قد خرجوا من بيوتهم متحدين الرصاص والقذائف والْمَوْتُ الزُّؤامُ ويقيمون مأتما جماعيا ...
مات عبد الناصر ...
تيتمت الامة !!
كان أمين القومية العربية ..
بمجرد أن يؤشر ... يؤشر فقط ... تأتيه الزعامات العربية زرافات ووحدانا
لم يكن احد من الزعامات العربية من المحيط الى الخليج يجرؤ أن يتخلف عن اجتماع يدعو له ناصر ...
وكانوا يخروا له طائعين ..
فكان أمرا محتوما أن تتآمر عليه قوى الظلام .
ومضى ...
وتوالت انهيارات الامة من بعده ...
الى أن وصلت الى ما هو عليه الحال الذي نعيش ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقبيل الخاتمة أقول :
ان للرجل أخطاء وخطايا مثل كل البشر
لا أنزهه ... ولا أقدسه ...
لكنه كان زعيم أمة بامتياز ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيف مات ....
كان العاهل الاردني الراحل الملك حسين آخر الزعماء العرب الذي يودعه ناصر في المطار
من أهم المعلومات التي باح لي بها أخي وابن خالتي المتخصص بالشؤون المصرية الى درجة غير مسبوقة الراحل الدكتور محمد الجمل أن النادل أحضر كوبين من العصير .. في احداهما سم شديد السمية كان من المفروض أن يأخذه الملك حسين ... أخذها بالخطأ الرئيس عبد الناصر ..
غادر الملك حسين المطار ...
بعدها فورا انتابت عبد الناصر الالام المبرحة ..
نقل الى المستشفى ... وما لبث أن فارق الحياة .
وقال لي : ان عبد الناصر لم يكن هو من خطط للتخلص من الملك حسين بالسم
..........................................................
وتبقى الحقيقة ... لا يعلمها إلا رب العباد
ولا بد أن تٌعلم ...
لا بد أن تٌعلم ...
فحياتنا قصيرة ..
ومردنا الى الدًيان
(س.م)