لربما لم يحظَ موضوع بجدل لا يتوقف، مثلما حظيت مزاعم استخراج ذهب في عجلون. ولم تمضِ أيام على ظهور القصة، حتى جاء بدء توجيه الضربات العسكرية لتنظيم "داعش" في سورية من قبل التحالف الدولي.
وبتزامن قصة الذهب مع بدء الحرب على "داعش"، شهدنا خلال اليومين الماضيين انتشارا غير مسبوق لروايات وحكايات عديدة مختلفة، جلها، إنْ لم يكن جميعها، محض شائعات تحوم حول العنوانين السابقين.
فمنذ أعلن الأردن مشاركته في الضربات الجوية لمواقع التنظيم في سورية، تصاعدت أجواء الحرب، وصار الناس يتداولون كثيرا من المعلومات المغلوطة التي تؤرق المواطنين وتشيع الخوف بينهم.
البداية كانت معلومة حول إخلاء سوق تجاري في منطقة الصويفية، تبين فيما بعد أنها مجرد كذبة. لكن تلتها معلومات متأخرة ليلا، تفيد أيضا بإخلاء "مول" في منطقة أبو نصير، وليتضح مرة أخرى، بعد التحقق، عدم دقتها.
تركيب صفارات الإنذار، نال أيضا حقه من التحليل والتساؤلات والتأويلات، وأخذ حيزا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تعامل معه الناس باعتباره صفارة الانطلاق للحرب!
قبل ذلك، تسيّدت قصة الذهب المجالس والدواوين. ولم يبقَ صغير أو كبير، غني أو فقير، إلا خاض في هذين الموضوعين، وسط تشكيك بكل الرواية الرسمية وعدم تصديق لها، مقابل نسج سيناريوهات كثيرة بهذا الشأن، يعززه اتساع نشاط الخيال الشعبي.
السؤال هو: لماذا تسود الإشاعات وتنتشر كحقيقة، من دون أي مساءلة أو تفكير منطقيَين؟ ولماذا يرفض الناس الرواية الرسمية، ويبقى التشكيك فيها هو الأساس؟
في الوضع الدقيق الذي يمر فيه الإقليم ككل، وضمنه المملكة، تصبح هذه الأسئلة أكثر إلحاحا، وبحاجة إلى إجابات شافية تمثل وحدها الطريق للتخفيف من حدة الشائعات، وتبعاتها التي قد تكون شديدة الخطورة فعلاً.
طبعاً، غياب الثقة بين المجتمع والحكومات، وهو عملية متراكمة، يعد السبب الرئيس لاتساع المشكلة، فيما يلعب فقدان الأمل بالمستقبل وغياب الأفق، كذلك، دورا كبيرا في التعاطي مع الإشاعات كحقيقة. ويتزامن ذلك مع ظروف اقتصادية صعبة، تشعر المرء بعدم الرضا والاحتقان تجاه المؤسسات الرسمية، لدرجة الكره أحيانا، حد التشفي بما يواجهها من تحديات.
أما السبب الرئيس الثاني لتفشي هذه المشكلة، فيتعلق بغياب الرواية الإعلامية المقنعة التي تشرح للناس السياسات الحكومية.
فالحديث الرسمي عن الدخول في الحرب الدولية ضد "داعش"، اقتصر على تصريح وحيد لوزير الإعلام، وبيان مقتضب عن القوات المسلحة، من دون وجود مرحلة تحضيرية تجهز الرأي العام لما هو قادم، بكل أسبابه ومبرراته. وفي ذلك إسقاط لقاعدة مهمة، وهي أن تَوفّر المعلومة المنطقية والحقيقية، كفيل بخلق بيئة طاردة للأكاذيب، أو على الأقل عدم تصديقها تلقائياً، والتمكين من الرد عليها بالحجة.
وليس نقص المعلومة هو البعد الوحيد لهذه المشكلة، بل إن غياب الرواية الموحدة المدروسة يعد أيضا جزءا رئيساً، بحيث يحتار الأردني من يصدق من المسؤولين! وبين هذا وذاك، تضيع فرص الاقتراب من الناس وتبديد مخاوفهم. فالدقة في المعلومة لا تقل أهمية عن توفرها. وفي الحرب على "داعش"، ما يزال الناس يتذكرون تأكيدات رئيس الوزراء، د. عبدالله النسور بأننا لن نكون جزءا من هذه الحرب، ليتفاجَأ الرأي العام، بعد أيام قليلة فقط، بأننا فاعل رئيس فيها! هذه الفجوة تؤدي بالنتيجة إلى فقدان الثقة بدلا من تكريسها، لاسيما في هذا الظرف الصعب.
أياً يكن، فإن سوق الإشاعات ستستمر، بل وستنتعش مع تصاعد الحرب والمواقف بشأنها محليا وإقليميا. والحد من تأثيرات ذلك على المزاج العام، والتخفيف من حالة الارتباك الشعبي، يتطلبان رؤية مختلفة لإدارة المرحلة المقبلة؛ بشكل يعطي الناس الحد الأدنى من الشعور بالطمأنينة على حاضرهم ومستقبلهم.
الحديث السابق لا ينفي وجود مخاوف من تهديدات لدى مؤسسات الدولة، وهذا أمر طبيعي. لكن المطلوب إبقاء هذه المخاوف في حجمها الطبيعي، من دون تهويل، وهو ما يحتاج رواية حكومية صادقة، كما وعيا أعلى من المواطن.
(الغد)