الهوس الاستعراضي يمثل حالة مرضية شاملة ووطيدة في الشخصية الأمريكية، من البيت الأبيض إلى هوليوود، وبين ذلك تأتي المحاكم الأمريكية التي يشجع نظام المحلفين على ممارسة النزعة الاستعراضية وفلسفة الأمور بشكل زائد عن الحاجة (سفسطة)، هذه كانت الحالة التي واجهها البنك العربي في القضية التعويضات المقامة في المحاكم الأمريكية.
يزعم محامي المدعين بأن البنك أخفى متعمدا بعض المستندات التي تتعلق بالقضية، ورأى في ذلك دليل إدانة للبنك، وهو استنتاج غير صحيح ولا يفضي بالضرورة إلى إدانة البنك الذي يلتزم بالسرية المصرفية حسب قوانين البلدان التي يعمل بها، وليس وفقا للقانون الأمريكي، إلا ضمن الترتيبات المتعارف عليها والمتوافق عليها بصورة دولية ضمن الأعراف المصرفية.
المفارقة، أن الحكم على البنك في هذه القضية، وبالتالي الدخول في مرحلة أخرى من التقاضي حول تعويضات للمدعين، يأتي بعد أيام قليلة من تصريح وزير الخزانة الأمريكي جاك لو بأن قطع الأموال عن داعش عملية معقدة!! وهذه، بالمناسبة، مسألة صحيحة، في ظل تعقد أنظمة التحويلات المالية وتعدد قنواتها ووجود خبرة في التضليل، ولكن كيف يمكن أن يكون تتبع أموال داعش المعزولة في إمارتها الخاصة معقدا، بينما يطالب البنك العربي بأن يتخذ إجراءات في تحويلات لقطاع غزة المتفاعل عضويا وعمليا مع محيطه العربي بأكثر من طريقة.
البنك العربي في النهاية هو مؤسسة مالية محترفة قامت بإجراء عمليات قانونية ونظامية، بينما القضية التي تحركت تجاهه استغلت وجود بعض الوثائق التي لا تعني شيئا عمليا، فالتحويلات المذكورة هامشية ولا يمكن أن تمول عملية إرهابية واحدة، كما أن البنك ليس مطالبا على الإطلاق، وضمن الظروف التي كانت سائدة في فترة هذه التحويلات، بأن يمتلك سجلات كاملة ووافية عن المستفيدين من الحوالات.
حركة حماس تمتلك خبرة واسعة في العمل السري والعسكري، وبالتأكيد فإن أعضاءها لا يصرحون بانتمائهم للحركة، ويتخذون أقصى درجات الحيطة والحذر التي يتعذر التعامل معها بواسطة البنوك والمؤسسات المالية، ولذلك وضعت السلطات الأمريكية ترتيبات خاصة بعد 2001 لضبط عمليات التحويلات المالية للأشخاص المشتبه في انتمائهم لمنظمات إرهابية حسب التصنيف الأمريكي، ومع ذلك فإن العمليات المالية استمرت، وبالطريقة التي دفعت وزير الخزانة الأمريكي لتصريحاته التي اشتملت ضمنيا على اعتراف بعدم قدرة الأمريكيين على تتبع مصادر التمويل عدا عن وقفها من مصادرها.
القضية مرهقة وطويلة المدى، وهذه جولة ضمن معركة قضائية متعددة المراحل، والبنك أمامه الفرصة لأن يواجه الاستنتاجات الأمريكية بآلية دفاعية تعتمد على تفكيك الاستنتاجات الأمريكية، والانتقال من الموقف الدفاعي إلى موقف يتسم بالديناميكية ويبادل الحجة بالحجة ويقبل عملية تسييس القضية كأمر واقع، فالاعتماد على اتخاذ مواقف قانونية مهنية والتركيز على الإجراءات ليس بالاستراتيجية المناسبة لقضية اتخذت بعدا سياسيا وإعلاميا كما يتضح من تغطية الصحف الأمريكية للحكم القضائي الذي صدر ضد البنك العربي.
من الناحية المالية والمصرفية فإن ما يحدث لا يتعلق مطلقا باستقرار البنك، ولا يعيق قدرته على النمو وأداء دوره الاقتصادي في الأردن وخارجه، فطبيعة الأمور أن يرصد البنك المخصصات اللازمة لمواجهة أية تعويضات محتملة، والبنك تمكن تاريخيا من تجاوز أزمات أعمق وأوسع وهو ما مكنه من الاستحواذ على رصيد كبير من الثقة كمؤسسة أردنية عابرة للحدود والأزمات. "الراي"