نادراً ما يكون مثل هذا التزامن بين عدة شيخوخات وعدة عشوائيات. فمن يبلغ أرذل العمر ليس الإنسان فقط بل الأفكار أيضاً، وكذلك الدول والعمران والثقافات التي أنهى التاريخ صلاحيتها. وبمقدور أي باحث أو «أركولوجست» أن يحصي ست شيخوخات على الأقل في حياتنا العربية، وكذلك خمس عشوائيات على الأقل..
لأن مثل هذه المصطلحات ليست وقفاً وحكراً على أحياء سكنية بل هي من صفات البشر وأساليب تفكيرهم وحياتهم، إضافة إلى أنماط سلوكهم، فالشيخوخة العمرانية تعالج إذا توافر المال والنوايا والعشوائيات السكنية يمكن تجريفها وإزالتها في أيام قليلة، لكن شيخوخة العقل والدولة والإدارة ليست كذلك، لأنها متفشية في أدق التفاصيل في النسيج الاجتماعي، وهناك محاولات يسعى البعض من خلالها لإخفاء تجاعيد هذا النمط من الشيخوخة بحيث تبدو متصابية، لكن هذه المحاولات تضاعف من الأزمة ومن مظاهر الهرم لأنها تتوقف عند السطح، تماماً كما تجري امرأة في السبعين جراحة تجميل تعيدها من حيث الشكل الخارجي إلى الأربعين أو الخمسين وهي تدرك في قرارة نفسها أن عمر كل أعضاء جسدها سبعون عاماً فلا القلب ولا الرئتان والكليتان أو حتى العظام تستجيب لتلك الجراحة السطحية.
وقد حاول العرب منذ قرن مثل هذه الجراحات بحيث تحولت الواجهات إلى رخام بينما ظل السخام يتفاقم في العمق وفي العوالم السفلية، وبالمقياس ذاته فإن الداعشية كمفهوم مجازي أوسع بكثير مما يعينه هذا التنظيم المتطرف الذي يتلذذ بمشاهد الذبح والدم، فالمصطلحات تبدأ من أسماء أشخاص أو من مناسبات صغيرة ومحددة ثم تتسع لتشمل دلالات لا آخر لها. فالسيادية تنسب إلى المركيز «دو ساد» وكذلك الماسوشية التي تنسب إلى نقيضه «ماسوش»، والفاشية بمعناها الدقيق حزمة من الهراوات لكنها أصبحت نظماً شمولية عمياء.
وما يجب التوقف عنده ليس الافرازات السامة لأفكار ظلامية، بل الأفكار ذاتها، لأن الطفح على الجلد عندما يتقيح لا يُعالج بمعزل عن الدورة الدموية التي أفرزته.
ونحن الآن ندفع ثمن ما أنجزته القوى الاتباعية التي لم تترك هراوة إلا و وضعتها في الدواليب، لهذا اتسعت وتعمقت الفجوة ليس فقط بيننا وبين العصر الذي نعيش فيه بل بيننا وبين أنفسنا أيضاً!
(الدستور)