لعل أطفال الأمس من العرب الذين كبروا مع برنامج «افتح يا سمسم»، يذكرون زهير الدجيلي، الشاعر الذي كتب حلقات ذلك المسلسل البديع، في بداياته، وكتب العشرات من البرامج والمسلسلات والأفلام.
أما العراقيون فهم يعرفونه صاحب «يا طيور الطايرة»، الأغنية التي صارت نشيدا لكل الراحلين، قسرا وفي ليال سود، من وطن ضاق عليهم.
لحّن الأُغنية كوكب حمزة وغناها سعدون جابر، عام 1972، يوم كان عراقيو الخارج يعدون بالآلاف، قبل أن يتعدوا الملايين.
ما حيلة معد برنامج «ما يطلبه المستمعون» المغلوب على أمره في إذاعة بغداد، وهو يتلقى أكياسا من الرسائل، أغلبها من أمهات ملتاعات، تطالب ببث «يا طيور الطايرة» مرة واثنتين وثلاثا وعشرا؟ لقد منعت الأغنية من البث، في فترة من الفترات، لأن صاحب الكلمات، أو اللحن، صار من «المغضوب عليهم».
هي رسالة عذبة بين المهاجر وأحبائه، لا تخلو من «تشفير». إنها تلك المهارة القديمة التي احترفها الشاعر أو الكاتب العراقي حين ينطق بنصف الكلمة تاركا للمستمع أن يكمل الباقي. لعبة تشبه الكلمات المتقاطعة؛ لأن التصريح بكامل الفكرة قد يودي بصاحبه إلى الغياهب.
وفيما يخص هذه الأغنية، فإنها في نصها الأصلي الكامل تتجاوز مشاعر الشوق والحنيّة واللهفة على أخبار الحبيب لتحمل إشارات سياسية. وهي اللمحات التي شطب عليها قلم ما، ثم عاد العم «غوغل» ووهبها، كما خلقها ربها، للراغبين من القراء السعداء السادرين في جنة «الإنترنت».
هل هو الرقيب الذي حذف أم صاحبها الذي تحايل على الرقيب لتمرير الأغنية؟ إن التحايل والتمرير والتمويه هي من التمارين التي تدرب عليها المبدع العراقي وبات مرجعا فيها.
وصارت الشكوى من الواشي والحسود و«البذات»، أي البدون ذات، أسلم من انتقاد عيون السلطة وكتّاب التقارير. وكم كان طريفا أن تسمع الشعراء وهم يغبطون زملاءهم الرسامين لأن لوحات هؤلاء لا تفتح فمها بكلمة بل تترك للألوان الخرساء أن تقول ما تشاء من حسرة. «شخبط شتريد ومحد يفتهم».
وسواء مر قلم الرقيب على طيور الدجيلي مرور الكرام أو مرور اللئام، فإن تلك الأغنية لا بد وأن تذكر في ميزان حسناته.
إنه الشاعر الذي علمنا أن «برد الحدايق عافية يا نجوى» ورتّب الخطوات على إيقاع «عيني يابو خد وخد» وأثثت كلماته يوميات جيل كامل، صاحبته في أرق الغرام الأول وعلمت المحبين أصول مخاطبة الحبيبات.
ويوم كان البلد يسير في طريق العسكرة و«أغاني المعركة»، احتمى الوجدان الشعبي بمخزونه من تراث مخبوء في القلب. مستودع يطلق عليه شعراء الفصحى تسمية «الخافق» بينما يرفع شعراء العامية الكلفة بينهم وبين «الأُفّاد» و«الدلالي» و«الصخر الجلمود».
«يا طيور الطايرة مرّي بهلي، ويا شمسنا الدايرة ضوّي لهلي». أستعيد اللحن والكلمات وأتذكر غاليليو غاليلي، عالم الفلك والفيزياء الإيطالي الذي حوكم أمام الفاتيكان، في القرن السابع عشر، لأنه قال إن الشمس ثابتة لا تدور وإن الأرض كوكب صغير يدور حولها.
مع هذا نقبلها من زهير الدجيلي، الشاعر الرقيق الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره. فكيف إذا بلغتنا أخبار عن معاناته من المرض، وهو خارج وطنه ومسقط رأسه في الناصرية؟ مدينة لم تكن الأكبر بين مدن العراق لكنها منحته المئات من سياسييه وأدبائه وشعرائه وكبار مطربيه وملحنيه وممثليه. وعندما يتفاخر أبناؤها بالأعداد الغفيرة للمشاهير المتحدرين منها، يظن السامع أن الناصرية بحجم الصين الشعبية. الشرق الاوسط