"كثرة الهرج خيبة. هرج بلا معناه مسموج ويخيب" (شعر نبطي).
تعبير "سمة البدن" يوضح الأثر المادي السيئ على النفس والمشاعر، الناشئ عن أنماط واتجاهات في السلوك والحديث والعلاقة بين الناس؛ فأنت تشعر نفسيا وبدنيا كأنك تلقيت قدرا من السم، يحبط جسمك ويهد حيلك.
سمة البدن تتلقاها بسبب "شهوة الكلام"؛ إذ ثمة رغبة جارفة لدى كثير من الناس في سرد القصص والمغامرات والأفكار والآراء والنصائح والانتقادات، لكن المشكلة أنه لا يوجد مستمعون كفاية.
وكثير من الناس يبحثون عن مستمع فقط، أي شخص يستمع إليهم حتى لو كان اللقاء به من قبيل المصادفة أو غير معني أو غير مهتم بالموضوع الذي يتحدثون فيه، أو لا يرغب في الحديث.
شهوة الكلام في المجالس والمقاهي والتاكسي واللقاءات، تحاصر مواطنين مشغولين أو مستمتعين بالصمت، أو على الأقل غير راغبين في التحدث.
وأسوأ من ذلك كله قصص المبالغات والمغامرات والبطولات العظيمة التي يمر بها البعض. المواطن الذي رسب في الثانوية العامة أربع مرات، يحدثك عن إنجازاته العظيمة في العمل والحياة، وشهادات الدكتوراه المتعددة التي حصل عليها، والإصلاحات التي حققها للبلد، ومواقفه الجريئة أمام المسؤولين في جميع المستويات. وكل إشاراتك وتلميحاتك إلى أنك لا تصدقه ولا تطيقه تزيده شغفا في الحديث؛ يعتقد أنك بذلك تسخن الحوار والجدل، ولا ينقذك إلا النظر إلى ساعتك والاعتذار بالمواعيد والاجتماعات.
يمكن أن يوقفك في الطريق شخص ليقرأ لك قصيدة أو مقالة كتبها ويفكر في نشرها، ثم يفيض في شرحها وتقديم أبعادها وتاريخها، ولن يتوقف ما دمت واقفا حتى لو سقطت من الإعياء. كما يشرح لك الأزمة الاقتصادية التي نمر بها. وإذا حاولت ان تكون مهذبا وتعلق وتتفاعل معه، يرد عليك ساخرا منك.
بعض الناس إذا صادفتهم في طريقي إلى العمل أو المنزل، أعرف أن غضب ربنا نزل عليّ، لأن أحدهم مستعد لأن يوقفني ساعات طويلة في حديث متواصل.
ويبدو أن هؤلاء طوروا مهاراتهم، لأنهم يعرفون أنهم إذا صمتوا لحظة، فإنك سوف تستغل الفرصة وتستأذن مودعا، ولذلك لا يتوقفون أبدا، معتمدين على أنك لن تغادر حتى يصمتوا! والمحيّر كيف يقدرون على التنفس، أو كيف يستطيعون البقاء بلا تنفس، في هذا الحديث الطويل جدا.. "يا رجل خذلك نفس"!
يسرد أحدهم القصص والموضوعات، ويكررها مرات عدة، بلا ملل ولا يأس. لا بد أنه أمضى وقتا طويلا يؤلف القصص والحكايا والمغامرات، ثم أعاد صياغتها ورددها لنفسه مرارا حتى أثقلت عليه وكاد ينفجر.
طيب يا عزيزي؛ لماذا تثقل على نفسك بكل هذه الحمولات والأفكار، ثم تبحث عن أحد يخلصك منها؟ لماذا لا تملأ جوفك بشيء آخر مريح يهذب نفسك ويريحها؟
(الغد)