وكأن التاريخ يعيد نفسه ،ولكن هذه المرة بصورة مأساوية، فقد وصل شابان فلسطينيان ،بعد نجاتهما من زورق أغرقه المهربون في مياه البحر الأبيض المتوسط على بعد نحو ثلاثمائة ميل بحري جنوب شرق جزيرة مالطا، إلى جزيرة «كريت» التي يقال أن الفلسطينيين جاءوا إلى فلسطين منها.. لكن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أصر ،وهو في طريقه إلى اليونان في رحلة بحرية بعد خروجه من بيروت، على أن أصل الفلسطينيين من فلسطين وليس من غير فلسطين وأنهم توقفوا في هذه الجزيرة بينما كانوا في طريق العودة من تونس إلى وطنهم الذي أخرجوا منه من قبل محتلين طارئين.. وبالطبع فإن (أبو عمار) لم يُغفل اسقاط الماضي على الحاضر ويقول :»وها أنا في طريقي إلى تونس بعدما أخرجت من لبنان وقبلها من وطني فلسطين بالقوة وسوف أعود إلى وطني فلسطين ذات يوم».. وأكمل :»ويرونها بعيدة ونراها قريبة».
وبالطبع فإن أمواج البحر هي التي أخذت هذين الشابين الفلسطينيين إلى جزيرة «كريت» التاريخية بالنسبة للشعب الفلسطيني وذلك بعدما أغرق «المهربون» المركب الذي كانوا يستقلونه والذي كان يحمل نحو خمسمائة مهاجر غير شرعي بينهم عدد كبير من الفلسطينيين الذين آثروا مغامرة الهجرة غير المضمونة والمكلفة مالياً ونفسياً على البقاء في غزة التي حولتها الحرب الأخيرة إلى أكوام من التربة و»الطوب» المهشم والمحطم والتي يخشى أهلها من ان تكون هناك حرب جديدة في الطريق ما دام أن «البعض» لا تهمهم أرواح أبناء شعبهم بقدر ما يهمهم إثبات أن «الإخوان المسلمين» لا زالوا موجودين بعد إسقاط حكمهم القصير العمر في مصر!!.
يقول إستطلاع أُجري مؤخراً ،من قبل هيئة دولية مستقلة ومحايدة، إن ثلاثة وخمسين في المائة من أهل قطاع غزة ،الذين يبلغ عددهم نحو مليون ونصف المليون نسمة، يفكرون في الهجرة إلى أيِّ مكان في دنيا الله الواسعة وحقيقة ان هذه الظاهرة ظاهرة غريبة على غزة وأهل غزة ولكن المثل يقول :»ما دفعني إلى المرِّ إلاَّ الأمر منه».. وحقيقة ان هذه النسبة المرتفعة والهائلة للذين يتطلعون إلى الهجرة ومغادرة وطنهم الذي تحملوا شظف العيش فيه لأكثر من ستين عاماً تدل على فقدان الأمل بعد هذه الحرب الأخيرة وحيث بدل أن يتمسك «المنتصرون»!! بالوحدة الوطنية لجأوا ،سيراً على عادة العرب بعد كل حربٍ من حروبهم القديمة والجديدة، إلى الإشتباك السياسي والإعلامي مع إخوانهم في السلطة وفي «فتح» ومنظمة التحرير.
إنه رقم مخيف وإنه مرعب أن يتجرأ ثلاثة وخمسين في المائة من أبناء غزة ،الذين تحملوا أربعة حروب ثلاثة منها مع إسرائيل ،حرب 2008-2009 وحرب 2012 وهذه الحرب الأخيرة، وواحدة وهي الأقسى والأشرس والأكثر وجعاً للقلب هي حرب الإخوة الأعداء في عام 2007 بين «فتح» وحركة «حماس»،.. على إعلان أنهم يفكرون بالهجرة إلى أي مكان في العالم وحتى من خلال زوارق التهريب التي قدمت لأسماك البحر الأبيض المتوسط خلال الأعوام الأخيرة ألوف الأطنان من اللحم البشري.. الذي ليس بعضه بل كله لحم إخوتنا في العروبة والإسلام.
كانت غزة ،التي لشدة إكتظاظها بأهلها وباللاجئين إليها من المناطق المجاورة من فلسطين «المحتلة» تعتبر الأعلى نسبة سكان في الكرة الأرضية، تنتج من الفواكه والخضراوات بمقدار ما ينتجه الأردن وكان أهلها يتشبثون بالبقاء فيها وكان هناك الحاحٌ على ضرورة إعادة اللاجئين منها إلى الخارج إليها.. لكن ها هي هذه الظاهرة الجديدة التي تدلُّ على فقدان الأمل بالحاضر والمستقبل والتي تستدعي أن يتوقف هذا الشجار غير المبرر وغير المقبول بين ما مِنْ المفترض أنهم شركاء في «الهم» وأنهم إخوة في السلاح وأنْ تتجه الجهود كلها نحو ترسيخ الوحدة الوطنية ونحو وقف التغريد خارج السرب والرقص في أعراس الآخرين وقدِّ الجيوب ولطم الخدود في مآتمهم.
(الرأي)