يمكن أن أعتبر نفسي من "الفرقة الناجية" من "تسونامي" الغضب الشعبي وردّة الفعل العاتية على النواب، بمناسبة التصويت على قانون التقاعد المدني، ما دمت قد أعلنت موقفا وقمت بالتصويت ضد القانون. لكنني لا أرى نفسي إلا في قلب الضرر الفظيع الذي أصاب النواب، بل والمؤسسة النيابية نفسها بوصفها ركن الديمقراطية الأول.
صحيح أن مجلس الأمّة، بشقيه، أخطأ بهذا القانون، والحكومة نفسها لم تقدم ابتداء صيغة مقنعة شاملة وعادلة لكل قانون التقاعد المدني، لكن الحملة كانت أقسى وأوسع من حدود الخطأ، والذي عالجه الملك باستخدام صلاحيته الدستورية بردّ القانون. حتى إن شكوكا ساورتني بأن القانون تحول إلى ذريعة ومناسبة لتهشيم صورة المجلس فوق كل حدود، وتفريغ كل الاحتقان الشعبي وتعليق كل معاناة الفئات الشعبية عليه، كما لو أن هذا هو باب الإنفاق الذي يكسر وحده ظهر الموازنة.
أقول هذا مستندا الى صدق ومصداقية موقفي، بعيدا عن أي مصالح خاصّة. فقد وقفت ضد القانون في المجلس السادس عشر والمجلس السابع عشر، لكنني لا أقبل اختصار مشكلة المال العام بهذه القضية، لأن الحقيقة غير ذلك. إذ حدّث ولا حرج عن الامتيازات وأبواب الانفاق والهدر الزائد في المال العام، والكثير منها في الظلّ خارج أي مساءلة. ودعوني أعيد تذكيركم بهذا المثال: ثمة جريمة جارية كل شهر بالنسبة لأكثر من مائة تقاعد من الضمان الاجتماعي، يصل بعضها إلى أكثر من 15 ألف دينار شهريا لمن تقاعدوا وفق القانون القديم للضمان الاجتماعي، من رؤساء مجالس إدارة شركات انتهزوا الفرصة ورفعوا رواتبهم في آخر سنتين قبل مغادرة مواقعهم. وبادّعاء أنها حقوق مكتسبة لا يمكن إزالتها بالقانون الجديد، تستمر جريمة اغتصاب تقاعدات شهرية فلكية، تغطي خلال بضعة أشهر كل ما دفع هؤلاء للضمان الاجتماعي طوال عمرهم.
نعم، أخطأ النواب والأعيان والوزراء. ويمكن للرأي العام أن يرى الجانب الإيجابي في توازن السلطات الدستورية؛ إذ إن النواب ليسوا مطلقي السلطة في التشريع لمصالحهم. وإلى جانب سلطة جلالة الملك الرقابية لردّ الخطأ، هناك المحكمة الدستورية التي ترد أي خلل دستوري في التشريع. لكن على الجانب الآخر، يجب الدفاع عن سلطة مجلس النواب في الرقابة وردع التجاوز عند السلطة التنفيذية. والمبالغة في تهشيم صورة المجلس لا تخدم هذا الدور، ولا تخدم الرقابة الشعبية. ومجلس النواب الحالي قام ويقوم بدور فاعل في ممارسة هذه الرقابة، إضافة إلى الجهد المميز في مجال التشريع.
الدعوة إلى حل مجلس النواب مضللة، ونتيجتها عدمية؛ فما جدوى انتخابات جديدة بالقانون نفسه؟! الاستخلاص السليم هو الضغط من أجل قانون انتخاب مختلف، وإصلاحات سياسية تؤدي إلى نوعية جديدة من النيابة. فالنواب أيضا هم ضحايا الواقع القائم، إذ الكل يقول نريد نائب وطن وليس نائب خدمات وواسطات، لكن النواب يعيشون على مدار الساعة تحت ضغوط الواسطة، التي تستنفد وقتهم وجهدهم، وتضعف دورهم الرقابي والتشريعي. والبعض يريد نيابة من دون أي رواتب باعتبارها خدمة تطوعية، لكن صدقوني أن ذلك يعني ترك النيابة فقط لكبار أصحاب المال والمصالح، وليس للأردنيين مصلحة في ذلك.
مجلس النواب يجب أن يستمر حتى إنجاز التشريعات الإصلاحية الضرورية. وستقدم للمجلس في الدورة العادية المقبلة قوانين البلديات واللامركزية والأحزاب ثم قانون الانتخاب؛ فيجب أن يعمل النواب عليها وفي ذهنهم الإصلاح العميق المنشود، بعد هذه التجربة القاسية ودروسها البليغة. وللحديث صلة.
(الغد)