ممثلو ودبلوماسيو معظم الدول العربية المنقسمة بين محوري "الاعتدال والممانعة" شرعوا في التحضير للقمة العربية التي تستضيفها دمشق نهاية الشهر الحالي بعد أن أجّجت المذابح الاسرائيلية الأخيرة الرأي العام, وأحرجت قادة سعوا لربط مشاركتهم في القمة باستحقاق انتخاب رئيس للبنان.
وفّرت "محرقة" غزة كرتا قويا في جيب سورية, التي تصّر منذ شهور على عقد القمة "بمن حضر", وفي موعدها يومي 29 و30 أذار.
الاجتماعات التمهيدية تشكّل محاولة شبه مستحيلة لتنقية الأجواء العربية في شرق أوسط جديد يحاول حشر "العنصر العربي" بين التوسع الإسرائيلي المدعوم أميركيا من جهة وبين تطرف إيران من جهة أخرى.
نجحت الصواريخ الحماسية التي أطلقت من غزة صوب المستعمرات المحاذية في استدراج رد فعل همجي كشف في الوقت نفسه تقاطع مريب في أجندات من يفترض أنهم أعداء. الصواريخ وبربرية إسرائيل وفّرت لسورية إطلاق معركة سياسية لحشد الرأي العام العربي المحبط من الزعماء البراغماتيين من خلال خطاب حماسي لجأ إلى استحضار دراما محرقة النازيين ضد اليهود.
وهكذا أعادت سورية القضية الفلسطينية إلى الواجهة, من منظور تكتيكي لخدمة مصلحتها الذاتية وتمييع الضغوط العربية التي تتهمها بلعب دور تعطيلي في لبنان, المفترض أن يكون الملف الأكثر ضغطا على القمة.
النتيجة استقرت على أن عددا كبيرا من ممثلي الدول العربية سيتقاطر إلى دمشق لحضور آخر الطقوس السياسية السنوية في عالم عربي, تحوّل إلى مريض منهار من مرض عضال لكنه يحتمي بحبة دواء لمعالجة الصداع.
وتتداعى الأسئلة: هل ستكون دمشق قمة انفجار أم انفراج? وفي خلفية المشهد السياسي الإقليمي تسعة أشهر بين انعقاد القمة وبين انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش. فترة ذهبية تجد فيها الشراكة الإيرانية - السورية مع أدواتها المحلية, حماس وحزب الله, فرصة للتأثير على سياسة واشنطن تجاه لبنان وفلسطين وعلى نتيجة الانتخابات الامريكية الخريف المقبل.
أجواء ما قبل القمة كانت دراماتيكية وحبلى بالتهديدات ولعبة فتل العضلات السياسية.
السعودية, زعيمة ما تبقى من دول الاعتدال العربي, حاولت تعطيل القمة بسبب الموقف السوري في لبنان. بدأت بالتلميح بإمكانية مقاطعة القمة ما لم ينتخب العماد ميشال سليمان رئيسا توافقيا للبنان ضمن مبادرة عربية تحدثت عن سلة متكاملة تضم تشكيل حكومة وتغيير قانون الانتخاب تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة.
الضغوط السعودية مسّت مصر والاردن. إذ حشرت عمان مرة أخرى في الزاوية بين محاولة الإبقاء على خطوط مفتوحة مع دمشق بعد المصالحة الأخيرة كضرورة لحل قضايا ثنائية كالمياه وترسيم الحدود وملفات أمنية رغم اصطفاف البلدين في محورين متناقضين.
ثم بدأت الدبلوماسية السعودية تعمل بسرية لعقد قمة عربية ثمانية بمشاركة مصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي بهدف الخروج بقرار يطالب بتأجيل القمة أو بعقدها في مصر بهدف نسف القمة السورية. وبالرغم من عدم رضا هذه الدول عن تحالف سورية مع إيران, ودورها التعطيلي في لبنان وفلسطين, فأن غالبية الدول التي استمزجت لم تبد الكثير من المساندة لأن ذلك سيدق المسار الأخير في نعش النظام العربي, بحسب مسؤولين ودبلوماسيين عرب التقت بهم كاتبة المقال.
أصرت مصر وغيرها على توفير "خيار عربي" لسورية وعلى ضرورة الذهاب إلى القمة للبحث في تسوية القضايا الإقليمية بدلا من محاولة حلها قبل القمة.
رأي آخر قال أن سورية دولة إقليمية صاحبة نفوذ ويجب على العرب أن يقولوا لها بصراحة إن تحالفها مع إيران يجب أن لا يكون على حساب قضاياهم الرئيسية لمصلحة الشد بين امريكا وإيران حول الملف النووي وكسب اعتراف واشنطن بنفوذ طهران الإقليمي بعد انهيار نظام صدام حسين قبل خمس سنوات.
لذا, العديد من أعضاء الجامعة, يرون أن على العرب الطلب من سورية أن تتخذ خطوات محددة لتحقيق التوازن في علاقاتها المأزومة مع العالم العربي وتحسينها. عليها, مثلا, دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس وعملية السلام وصولا إلى مصالحة وطنية فلسطينية لكن ليس من خلال إعطاء الغلبة لحماس وضرب مصداقية عباس والاستهزاء بالبراغماتيين العرب. كما أن عليها التعامل بايجابية مع ملف لبنان والقيام بدور أكبر لمصلحة تعزيز الاستقرار في العراق سيما "أن إيران باتت تمسك مفتاح الحل بيدها هناك".
دول مجلس التعاون لم تتفق على موقف موحد من الطرح السعودي. وقررت تعويم قرار مستوى مشاركتها في قمة دمشق. أما الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ففضل عدم تأجيل القمة لأنها أصبحت دورية منذ أن تم التفاهم على ذلك في قمة عمان عام .2000
سابقة التأجيل كانت ستدخل مؤسسة القمة في متاهات غير ضرورية.
ثم دخلت امريكا وأوروبا على خط مناشدة حلفائها العرب المساعدة على فرض المزيد من العزلة على سورية. مسؤول عربي يقول إن "واشنطن طلبت صراحة من السعودية, مصر والأردن التفكير مرتين قبل اتخاذ قرار المشاركة".
في المحصلة "قررت الدول الثلاث المشاركة لكن بمستوى تمثيل متدن: وزير أو سفير".
الغرف المغلقة في القمة ستشهد مناكفات.
فسورية ستحاول توظيف القمة لحسابها وحساب طهران. المعركة ستكون حول مصير العلاقة العربية - الإيرانية على ضوء إصرار إيران أنها في موقع قوي اليوم يمكنها من تصدير نموذجها إلى المنطقة.
وسيبدأ الابتزاز. فالقمة العربية أصبحت مجرد حركة سنوية في ملء الفراغ السياسي على المستوى العربي لتكتمل المشهدية في أن القمم العربية والإسلامية لا تستطيع أن تحل مشكلة عربية وإسلامية واحدة وللتحول إلى ظاهرة صوتية تثير سخرية العالم لا احترامه.
"لم يعد القرار العربي بيد العرب لكي يتفقوا على شيء, بخاصة في المفاصل الأساسية الثلاث: لبنان, فلسطين والعراق. إذ باتت إيران تملك القرار المعطل: لا أمن هناك ولا استقرار ولا تركيبة حكومية من دون حسم إيراني", كما يقول مسؤول اردني. "اليوم أصبحت الصورة واضحة: جزء من العرب مع القرار الإيراني وجزء مع القرار الأمريكي".
اجتماع القمة لن يخرج بأكثر من ضرورة المحافظة على وحدة العراق وتحقيق مصالحة سياسية لدعم الاستقرار. وسيطلب العراق مرة أخرى من الدول العربية أن تسرع في إرسال السفراء إلى بغداد لتحسين علاقاتها مع حكومة نوري المالكي الموالية لطهران.
فلا يوجد حاجة لموقف عربي أقوى تجاه العراق لأن الولايات المتحدة تجري محادثات سرية مع إيران بالإنابة عن حكومة المالكي للتوصل إلى اتفاق سياسي إستراتيجي أمني طويل الأمد يضمن مصالح الجميع.
ستعلو وتتلاطم الأصوات حول لبنان بين عدد من الدول العربية وسورية. لكن في النهاية سيصدر قرار بدعم المبادرة العربية الخاصة بلبنان مع التأكيد على ضرورة دعم وحدة لبنان وتفعيل مؤسساته الدستورية المعطلة. فغالبية العرب وسائر العالم باتوا على قناعة بأنه "لن تكون هناك حكومة ورئيس جديد للجمهورية في لبنان قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش ومجيء إدارة جديدة إلى البيت الأبيض". كما أن السعودية وحلفاءها, بعكس سورية, لا يستطيعون التأثير على مجريات الأحداث في لبنان إلا من خلال الضغط السياسي, لأنه لا وجود ميلشياوي فعلي لهم على الأرض.
ملف المفاوضات السلمية سيشهد جدلا مماثلا. ستحاول سورية إحراج الدول التي تصر على "الاستسلام بدل السلام". ستطلب سورية وعدد من الدول التي تساندها بضرورة إعادة النظر بقرارات القمم السابقة دعم مبادرة السلام العربية بسبب فشل عملية السلام على يد امريكا المتخبطة, وإسرائيل التي تمعن في تسمين المستوطنات وضرب مصداقية الرئيس الفتحاوي عباس على حساب تنامي شعبية حماس.
ستكون هناك محاولات لتحديد مدة زمنية قبل أن يعلن العرب وقف التزامهم بالمبادرة. بالمقابل, ستصر الدول العربية التي تقف في الخندق الآخر أن تلك الشروط لا تصلح في زمن تظل المفاوضات مع إسرائيل هي خيارهم الوحيد والاستراتيجي مع أن هذه الدول تعلم في قرارة نفسها بأن إسرائيل وامريكا حولتا المبادرة إلى "ورق تواليت" منذ زمن بعيد وأن حل الدولتين لن يرى النور.
وستؤكد هذه الدول أن وقف عملية السلام يعني دفن الدولة الفلسطينية المستقلة على حساب الاستقرار الإقليمي ومصالح دول عربية مجاورة كالأردن ومصر. لذا لا بد من دعم الجهد التفاوضي ومحاولة تعزيز الاستقرار في غزة من خلال الهدنة بين إسرائيل وحماس بوساطة مصرية. وفي الأخير سيصدر قرار يطالب بتشكيل لجنة متابعة لمسار السلام على أن ترفع توصياتها إلى اجتماع لمجلس وزراء الخارجية يعقد بعد شهور ليقرر مسار المستقبل.
وسيختتم الحفل السنوي بقراءة بيان نهائي منزوع الدسم يحاكي الحد الادنى من قدرة العرب على الاجتماع بدل الإجماع على شيء قابل للقياس. وسيشعر العربي مرة أخرى انه يتيم في أقليم تغيّرت ملامحه وروحه المتمسكة ببقايا جسده المريض.(العرب اليوم).