فضائية الجزيرة .. والتناقضات المريبة
مالك نصراوين
23-03-2008 02:00 AM
منذ اثنا عشر عاما ، هي عمر محطة الجزيرة الفضائية القطرية ، اجتاحت الساحة الاعلامية العربية حالة جديدة عصية على الفهم والاستيعاب ، جمعت كثيرا من التناقضات التي يحار المرء في فهمها ، واصبحت الجزيرة حالة جديدة ، استطاعت جذب انتباه المواطنين العرب في مختلف اقطارهم ، بخطها الجديد الذي بدا للوهلة الاولى ، ارواءا لعطش ابناء العروبة ، لمثل هذا النهج الاعلامي القريب الى الاعلام الشعبي ، فداعب هذا النهج احلامهم الدفينة والمكبوتة ، وأوقظ العواطف التي طمستها العقلانية السياسية ، وعادت الى الساحة الاعلامية العربية ، موجات القدح التي عانينا ويلاتها تفتتا وانقساما واستقطابا وهزائما في الخمسينات والستينات ، هذا القدح الذي يبدو انه يتناغم مع نفسية المواطن العربي ، الذي لا يجيد استخدام سلاح افضل من سلاح اللسان المترافق مع الصوت العالي ، ربما هذه قضية نفسية لا استطيع الالمام بتفسيرها ، لكن الصوت العالي في الاعلام العربي هو الاكثر شعبية ، فلنا الفضل في تمجيد الصوت ، السنا اول من اطلق نداء ، " لا صوت يعلو على صوت المعركة " ، فالمعركة هي صوت اذن ، صوت مذيع هادر قبل صوت المدفع والدبابة ، مع شديد احترامي ومحبتي للقائد العربي الكبير ، جمال عبد الناصر ، رمز تلك المرحلة ، فالنداءات التي اطلقها اعلاميون عرب قبل نكسة حزيران ، وطالبوا فيها سمك البحر الابيض المتوسط بتجويع نفسه والاستعداد لالتهام الاسرائيليين ، اللذين سوف تلقي بهم جحافل الجيوش العربية المحررة في البحر ، هو اكبر مثال على الاعلام الذي تربى على عشقه المواطن العربي ، سواء من حيث انتقاء الكلمات الهجومية العنيفة ، مترافقة مع صوت حربي مثل صوت احمد سعيد ، وما كان لمثل هذه التفوهات ان تثير الحماس الشعبي ، القصير المدى ، والذي ينتهي تاثيره مع اول استرخاء لجسد المواطن العربي المنهك ، لو انتقص من احدى هذه المقومات ، الكلمة الهجومية الجارحة والصوت الصارخ ، اما صوت العقل الهادي الرصين ، الذي يتعامل مع الحقائق ، يخاطب العقل وليس العاطفة ، فلا شعبية له في اعلام العرب ، هذا الامر ينسحب ايضا على التقييم الشعبي للزعماء العرب ، الصوت قبل الحقائق .
جاءت الينا فضائية الجزيرة ، بعد حوالي ربع قرن من انتهاء مرحلة الجهل والتخبط الاعلاميين ، جاءت لتساهم في اعادة تصاعد الخط البياني لاعلام الهجوم والتجريح ، بعد ان كان يسير انحدارا الى الحضيض ، وكأني بغوغائيتنا جمر تحت الرماد ، مجرد هبة هواء خفيفة تعيد اشتعاله ، فهذا ما حدث بعد حرب الخليج الاولى عام 1991 ، حيث انتعشت هذه الغوغائية الساذجة من خلال احلام طفولية بالنصر ، فعادت الغيبيات والاساطير لتتوج ثقافتنا وسلوكنا .
يبدو ان القائمين على الجزيرة ، درسوا بعمق نفسية المواطن العربي ، وايقنوا مدى حاجته للتنفيس عن نفسه ، بالكلمة الهجومية التي ينطقها من خلال هذه الشاشة ، لو اتيحت له الفرصة ، او مدى طربه لسماع عبارات القدح والذم من الاخرين ، التي تعبر عن مخزون الحرمان والمرارة لديه ، فتعد له الوجبة الدسمة التي لطالما اشتهاها ، من برامج الردح ، استعانت بكل المفردات التي حاول كل المتنورين العرب طمسها ، فالمصطلحات الطائفية اصبحت زادا يوميا للمشاهد العربي ، تكرر على مسامعه يوميا عشرات المرات لغسل دماغه ، وانعاش اوهام التميز والنصر البعيدين عن الواقع ، اللعب على حبل الانقسامات العربية ومنها الداخلية ، وفتق الجراح بدل المساهمة في اندمالها ، والاهم من ذلك بلبلة الذهن العربي ، وهو يلحظ التناقض بين ما يعلن ويروج له ، وبين واقع وحقيقة الظروف الموضوعية لها ، فلو كانت هذه المحطة تبث من كوبا ، لفهمنا سر عدائها الظاهر لامريكا ، وتأليبها الرأي العام العربي عليها ، ولو كانت تبث من دولة غربية عريقة الديمقراطية ، لاستوعبنا ممارستها وعشقها للحرية ، رغم ان حريتها لا تمس الدولة التي تنطلق منها ، وهي ممارسة مجتزئة للحرية .
لقد عجز المواطن العربي عن استيعاب هذا التناقض ، فلجأ الى تجاهله ، او التقليل من اهميته ، او تبريره بميزان الربح والخسارة ، فهو يرى ان هذه المحطة منحازة للمواطن العربي ولقضايا العروبة ، لا بل اصبحت في الفترة الاخيرة تعتبر منبرا للاسلاميين ، الذي نظروا لها بما بدا لهم من ايجابيات تصب في مصلحتهم ، فلما كانت الضربة الاخيرة التي وجهت لهم من خلال برنامج الاتجاه المعاكس ، بعد استضافته للدكتورة وفاء سلطان ، لجأوا الى تجزئة المحطة ، وصبوا جام غضبهم على البرنامج ومعده ، وهو الذي سبق ان طبلوا له عندما استضاف كبار الاسلاميين .
الجزيرة تمثل حاليا الشيء وضده ، مواقفها وارتباطاتها تتناقض ، لا بل انسحب التناقض الى المشاهد العربي ، الذي يتعامى عن السلبيات ، ليكسب الايجابيات ، فمثل تلك الحلقة من برنامج الاتجاه المعاكس ، كافية لادانة دولة ، فالرسوم الدنماركية اساءت لعلاقاتنا مع الحكومة الدنماركية والشعب الدانماركي ، اما برنامج الجزيرة ، الذي سبق الاشارة اليه ، فلم يصل رد الفعل ، حتى لمجرد اعادة تقييم المحطة ، بل انصب الغضب فقط على البرنامج ومعده ، وهو بجميع الاحوال ما زال قائما لم يتوقف .
m_nasrawin@yahoo.com