يحمل خطاب جلالة الملك بذكرى معركة الكرامة دلالات خاصة، على درجة من الأهمية في هذه اللحظة التاريخية والمنعطف الذي تمر به المنطقة، وما لذلك من تداعيات خطرة وكبيرة.
"الرسالة السياسية" في الخطاب الملكي لا تقف عند المضمون، على أهميته، وإنما ترتبط أيضاً بدلالات التاريخ والمكان.تكمن الدلالة التاريخية في أنّ الخطاب جاء بمناسبة الذكرى الأربعين لمعركة الكرامة التي قدّم فيها الجيش الأردني بطولة فريدة وقدرة استثنائية على وقف الاعتداء الصهيوني وتحقيق أول نصر عربي صاف ضد إسرائيل، وهو النصر الذي للأسف تتجاهله وسائل الإعلام العربية فتصر على الاحتفال بمعركة رمضان عام 1973 كأول نصر وبمعركة لبنان 2006.
قدرُ الأردن دوماً الجحود والتنكر! وإلاَّ فإنّ معركة الكرامة تمثل إنجازاً عربياً فريداً ونموذجاً حقيقيا للبطولات الصادقة والإدارة العسكرية الكفؤة، التي تبتعد عن العنتريات الخطابية وعن الدعايات السياسية. وقد كانت الكرامة نصراً صافياً مائة بالمائة على خلاف الحروب الأخرى.
لقد دفع الأردن ثمناً غالياً، على الصعيد الإعلامي والسياسي، وذلك جرّاء اعتماده مبدأ الصدق والوضوح والعقلانية في خطابه وممارسته السياسية، وجرى تشويه كبير له ولدوره. وإذا أردنا أن نعترف؛ فإنّ الصورة "النمطية السلبية" تأخذ مساحة كبيرة لدى شرائح من الرأي العام العربي، نتيجة تقصيرنا في تقديم الأردن ودوره على حقيقته، وهو تقصير ثقافي بدرجة أولى، وبسبب عدم القدرة على إدارة المعركة الإعلامية بنجاح.
وما دمنا طرقنا باب الصراحة؛ فإنّ شريحة من إعلامنا ومثقفينا ساهمت - وتساهم- في تشويه صورة الأردن لحساب أطراف ومصالح إقليمية، رغم أنّ دور الأردن ومكانته لا تقارن بحال من الأحوال مع أغلب الدول العربية. هذا لا يعني أن نصمت على الأخطاء والخلل في المسار، بل أن نضعها في حجمها الطبيعي من الصورة العامة، كي لا يكون النقد عامل تهديم لا بناء وتصحيح!
نجحنا في معركة الكرامة. لكننا فشلنا في المعركة الثقافية والإعلامية، فلم نعط الكرامة وشهداءها وبطولاتها وصورتها المشرّفة وأهميتها ودلالاتها التاريخية مكانتها التي تستحقها، ويستحقها هذا الوطن.
وتتضافر الدلالة المكانية للخطاب الملكي بدلالته الزمنية؛ فالاحتفال تمّ في ظل الصرح التذكاري لشهداء الكرامة، تحت الرعاية الملكية السامية وبتنظيم الجيش العربي الهاشمي، وذلك تأكيدٌ على دور الجيش في حماية الوطن وهويته وفي المساهمة في الثقافة الوطنية من جهة، وعنوان - من جهةٍ أخرى- لمكانة الشهداء الصادقين الذين ضحّوا من أجل وطنهم وقدّموا دون أن ينتظروا مقابل، بل لمستقبل أبنائهم وأحفادهم كي يعيشوا بكرامةٍ وشرف مفتخرين بالآباء والأجداد الذين أثبتوا رجولتهم وبطولتهم وقدّموا روحهم لله ثم لتراب الوطن الذي ولدوا فوقه وعاشوا عليه واستشهدوا فيه.
الكرامة؛ تلخيص جميل وفريد لصورة الأردن وهويته الحقيقية بعيداً عن التشويه وعن معارك الإعلام والسياسة الوهمية.. هو وطن صغير بقيادة تاريخية فريدة، برغم شح الموارد الطبيعية وبرغم – كذلك- الإعصارات الإقليمية، بُني بسواعد ابنائه فأصبح نموذجاً في المنطقة، في التعليم والتنمية والتلاحم والتسامح، وفي الوقت نفسه مثالاً على القدرة على ردّ العدوان وحماية الاستقرار والأمن.
في هذا السياق تجدر الإشارة والإشادة بالتقرير الجميل الذي قدّمه الزميل حسن الشوبكي لفضائية الجزيرة حول معركة الكرامة والاحتفال الأردني بها. ولعلّ هذا التقرير نموذج على إدارة المعركة الإعلامية والثقافية، كيف نقدّم صورة الأردن في الداخل والخارج من خلال الفضائيات والوسائل الإعلامية العربية والعالمية الكبرى. بلا شكّ، وبعيداً عن الخلاف على قضايا تفصيلية وجزئية في المشهد العام فإنّ الطاقات الإعلامية الأردنية في العديد من الفضائيات والصحف الكبرى قادرة على المساهمة في تقديم الأردن بالصورة الحقيقية والمطلوبة. فهنالك ثوابت رمزية ووطنية تمثل موضع إجماع وافتخاز للأردنيين من الضروري إبرازها وتوضيحها وألا تضيع في زحمة تفاصيل يومية لا توازي مكانتها وقيمتها.
معركة الكرامة بأبعادها وامتدادها ورمزيتها لخّصها الخطاب الملكي بصورة جميلة ومكثّفة. يمكن الوقوف هنا على قضيتين أساسيتين؛ القضية الأولى قول الملك:" الدرس التاريخي المستفاد من هذه المعركة، والذي يجب أن يفهمه العالم، وأطراف الصراع في القضية الفلسطينية، أن حل وتسوية هذه القضية، لا يمكن أن يكون بالحروب، ولا بفرض أي حل بالقوة، وأن الحل لا يكون الإ بإعادة الحقوق إلى أصحابها، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني، بإقامة دولته المستقلة على الأرض الفلسطينية، وهذا هو طريق الخلاص من الحروب وآثارها المدمرة". ذلك أنّ الكرامة جاءت ردّاً على عدوان وإثباتا واضحا أنّ محاولة فرض الحلول بالقوة هي محاولة فاشلة. فالحل الوحيد المعبّد للخروج من الصراع التاريخي في المنطقة هو استعادة الشعب الفلسطيني حقوقه وإقامة دولته. وبغير ذلك، مهما توهّم البعض، لا توجد حلول على حساب أي طرف إقليمي آخر، سواء أريد فرض هذه الحلول بقوة السلاح أو بالضغوط السياسية والاقتصادية.
أمّا القضية الثانية، المكمّلة للأولى، فهي قول الملك: " كل مرحلة من مسيرة الوطن، لها تحدياتها وأخطارها، ويجب أن نكون دائما على استعداد لمواجهة هذه التحديات، والتصدي لأي خطر". دلالة القول واضحة؛ فمعركة الكرامة بما تمثله من دفاع عن الوطن وهويته وأمنه لم تنته، بل هي مستمرة في رمزيتها، فإذا كانت "الكرامة" (1968) هي معركة الجيش والسلاح والرجولة في الحرب فإنّ الكرامة اليوم هي مواجهة التحديات والأخطار الاستراتيجية الحالية، والتي قد تختلف في صورتها ومداخلها وسياساتها عن معركة الكرامة، لكن أهدافها واحدة لم تتغير!
حُقّ للأردنيين أن يحتفوا بذكرى الكرامة وبالآباء المجاهدين وبوطنٍ صان نفسه.. فصانه الله.
(عن الغد)