كأن عمان محطة للعابرين؛ لا يبدو فيها أثر لعلاقة دائمة بين الناس والمكان!
النهر المنشئ للمدينة، والمفترض أنها تشكلت حوله، لم يعد موجودا. وهذا يناقض رواية المدينة نفسها في نشأتها ومبرر وجودها، وفي علاقة أهلها بها الذين لا يرون أهمية ومبررا للنهر طالما أنهم عابرون!
وفي الأسواق والمحال التجارية، يغلب سلوك الخوف والشعور بالندرة، والاستعداد لمستقبل مجهول أو كارثة أو أزمة سوف تحلّ قريبا؛ الخوف من نفاد كل شيء! والمطاعم تبدو مثل ساحة يزدحم ويتجمع فيها عابرون يغلب عليهم الاعتقاد أن الطعام سوف ينفد بعد نصف ساعة، أو يتزودون لمرحلة مقبلة بلا طعام! وفي الأحاديث والمجالس يغلب الهمس في السياسة والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
في كل مكان يستخدم التاكسي باعتباره ترفا أو وسيلة نقل للسياح والأغنياء، إلا في عمان؛ فهو وسيلة نقل يومي ضرورية، يمكن أن تستخدمها في اليوم ثماني مرات، كما يحدث معي على سبيل المثال. وتتلقى في أثناء ذلك قدرا من الإرهاق النفسي! لأن سائق التاكسي العابر بالمدينة، يخيّم عليه الشعور بالوحشة والغربة مع الناس والمكان.. لديه أفكار وتصورات خرافية وخيالية عن المدينة وأهلها.
والعمل في عمان محطة للعابرين الذين جاؤوا مهرولين يسابقون الزمن والقدر لتسجيل لحظة القدوم، ثم يهرولون للعودة في قوافل طويلة بلا نهاية إلى المدن والأقاليم والضواحي، أما الإجازة فيها فعقوبة.
كل هذه الصحف والمحطات التلفزيونية والإذاعية في عمان لا تتذكر إلا قليلا أنه يُفترض بها أن تكون في فكرتها المنشئة إعلاما مجتمعيا، يقدم للناس ما يحتاجون إليه في حياتهم اليومية والعامة في مدينتهم، ويجدون فيها ساحة لتفعيل الخدمات والحصول عليها. لكنها مثل محطات التعذيب أو لتسلية العابرين وخدمتهم، لا تجد فيها خبرا أو جدالا حول المؤسسات والقضايات التي تخصك في المنطقة التي تعيش فيها. لم أسمع يوما نقاشا في إذاعة محلية عن المدارس في خلدا؛ بين الأهالي والمدرسة والإدارة التعليمية. لم أشاهد في خلدا مركزا صحيا ولا مكتبا للبريد ولا ناديا اجتماعيا رياضيا للأهالي ولا مكتبة عامة.
ولا يجد أهلها في الصحف والإذاعات مقصدا للأخبار والخدمات التي تخصهم فيها. وقل الشيء نفسه عن الصويفية وأم السماق وتلاع العلي والجبيهة وصويلح والموقر واللويبدة وراس العين ونزال والنزهة والقسطل والجيزة وأم أذينة والرابية وزهران والعبدلي... لا أحد في هذه اللحظة يخبرك عن الخدمات في عمان، ولا أين وكيف تمضي وقتك وعطلتك. وكل هذا الصخب والزحام والضجة في عمان، لكن لا توجد صحيفة مستيقظة ولا إذاعة تعلم عن عمان شيئا، ولا موقع إنترنت.
والأرصفة في عمان ليست للمشاة، ولكنها مواقف سيارات، أو امتدادات للبيوت والمحال التجارية.
مدن البحر المتوسط هي مدن المشاة والمشّائين، والدراجات الهوائية، والأطفال المنتشرين المستمتعين بأمان؛ فيفترض أن تكون مساحة الأرصفة فيها لا تقل بل تزيد في بعض الأماكن عن المساحة المخصصة للسيارات.
والبيوت المتوسطية معدة للصيف؛ في البحث عن الظل و"الفرندة"، أو الفضاءات الغربية والشمالية (بالنسبة لشرق المتوسط)، تمثل قلب البيت. ولكنها في عمان غرفة أو مستودع لـ"الكراكيب". ومع غلبة السلع الرديئة المجهولة، صارت عمان مستودعا عملاقا لـ"الكراكيب".
لا مكان في عمان أكثر جمالا وأمنا من بيتك، بشرط أن تغلق النوافذ والستائر و"الأباجورات".. ثم تستمتع بفنحان قهوتك.
عمان تذكر في كل لحظة بالمتنبي حين يقول: "بِمَ التّعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطن / وَلا نديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكن".
(الغد)