على الرغم من اعتراضنا على تشديد الرقابة على المطبوعات والنشر، ووجوب إيجاد قوانين عصرية، ومطالباتنا بالحريات العامة عموما.. وحرية التفكير والإبداع والكتابة والنشر والنقد، وانحيازنا الكامل (للرقابة المعاكسة) أي رقابة الصحافة على أداء المجالس التشريعية كما على الأداء الحكومي.. إلا أننا اكتشفنا فوائد جمة لمبدأ المصادرة أحيانا تنعكس على الكتّاب وتؤدي لهم خدمات جليلة، لذلك فقد انضم صاحبنا (خميس بن جمعة) ذات مرة للمطالبة بتشديد الرقابة على كل المصنفات ذات العلاقة، وبالطبع فقد كانت مطالباته باطنية و( من تحت الطاولة) ويمكن القول إنها قد بقيت في مرحلة الأمنيات.
سر هذا التحول في شخصية صاحبنا (الليبرالية) أنه سمع وقرأ عن سلسلة الكتّاب الذين حولتهم الرقابة أحيانا.. والهجوم عليهم وإباحة دمهم من المتشددين دينيا أحيانا أخرى.. بدءا من (دي أتش لورانس) وحتى سلمان رشدي وما تلى ذلك من قصص كثيرة حولت أولئك (المجني عليهم) إلى أساطير تتداول كتبهم في السوق السوداء ويعاد طبعها كثيرا ويجنون منها أرباحا..و...والخ
لمعت الفكرة في رأس صاحبنا (خميس بن جمعة ماغيره) لأنه كان قد نشر رواية وديوان شعر لم يقدماه كثيرا في سلم المجد.
قرر هذه المرة أن ينشر رواية وأن تتم مصادرتها.. فيقيم الدنيا ولا يقعدها على رأس الرقابة والقوانين.. وبالفعل كتب الرواية ونشرها خارج البلاد.. ترك النسخ التي طبعها وأحضر عشر نسخ منها فقط .. سلم واحدة للرقابة، وبدأ مبكرا بالترويج لروايته المصادرة.. وأقام الندوات والمؤتمرات الصحفية، وكاد يصيب شيئا مما سعى إليه.. إلا أن المفاجأة لم تمهله حين تلقى اتصالا ليتسلم كتاب الموافقة والنسخ التي أحضرها
حك رأسه بخيبة أمل وقال لنفسه: طاشت الطلقة هذه المرة (لكن بسيطة)
في المرة الثانية كتب ديوانا شعريا فيه الكثير من الكلام الخالي من الشعر.. وحرص هذه المرة على أن يتضمن الكلام عبارات تشبه التجديف في الدين من النوع الذي يثير حفيظة غير المثقفين من الخطباء وأئمة المساجد.. مثلا، وكاد ينفجر من الغيظ حين وجد الديوان مجازا من الرقابة ونسخه كلها في بيته ولم ينتبه أحد من النقاد إليه .. فأجرى صاحبنا تعديلا في استراتيجيته، إذ قرر هذه المرة ألا يتعب نفسه بتجربة أخرى..
ارتدى دشداشة بيضاء.. وطاقية مخرّمة، وأطلق لحيته شهرا.. وذهب إلى المسجد، وبعد الصلاة جلس مع الإمام.. تناول من (عبه) نسخة من ديوانه وقال للشيخ: أترى يا سيدي هذا الكتاب المليء بالتجديف والإساءة للدين؟ إنه كتاب موجود في السوق ولم تصادره الرقابة؟ يا سيدي إذا سمحتم لهذا الشاعر العابث بأن ينشر أدبه الرخيص هذا.. فماذا سيكون مصير الأجيال من أبناء هذه الأمة المبتلاة بالغزو الثقافي؟ أرجوكم يا سيدي... الخ.. واستمر على تلك الحال حتى اقتنع الشيخ بغيرة (أخينا خميس) على مستقبل الأمة، وخوفه على الأجيال من عبث العابثين و...الخ
وطبعا قرأ الشيخ المسكين الديوان فلم يفهم شيئا سوى العبارات التي تحمل إشارات (تجديفية)..
ويوم الجمعة تناول الشيخ الديوان وصعد به إلى المنبر، ولعن (سنسفيل) أخينا خميس.. فابتهج خميس وتمنى أن لو أن تلك الخطبة تبث على الهواء..وقال في نفسه: هذا أول الغيث...
تحمس أحد المصلين ورفع قضية على صاحبنا الذي سارع إلى حلق لحيته .. وتغيير شكله.. وإقامة مؤتمر صحفي يتحدث فيه عن القضية التي رفعت ضده.. وعن تهديدات بالقتل طالت كل أقاربه وأنسبائه وجيرانة، وصاحب العمارة إذا لم يطرده من الشقة... ولم يفته إرسال تقارير عن الواقعة إلى المنظمات العالمية لحقوق الإنسان .. و( صحفيون بلا حدود) وكل ما له وما ليس له علاقة بالموضوع من الجهات، (وبعد أن طبل الدنيا) ردت المحكمة القضية على صاحبها لعدم اقتناعها بأسباب الدعوى.. لكن صاحبنا لم يقتنع أنه (بريء) وأن خصمه خسر القضية.. وظل يتكلم ويصرخ وينادي ويستغيث.. وكلما جلس في مجلس أو على (باب دكانة أبو العبد) أو أجريت معه مقابلة.. أو نشر مادة على الشبكة العنكبوتية يبدأ بشرح تفاصيل القضية التي لم تنته بعد حسب اعتقاده..