لا يكفي أن تكون أمة محمد أكثر أمة تنزف دماؤها ويهجّر أبناؤها وتغتصب نساؤها. لا يحق لها أن تستمتع بدور الضحية، فيرضى القتيل وليس يرضى القاتل. هل من شعوب في العالم تتعرض اليوم لما تتعرض لها الشعوب المسلمة؟ لم يتوقف النزيف منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي سويت من بعدها معظم مشاكل الشعوب. لم تحل القضية الفلسطينية ولا قضية كشمير ولا الشيشان.. وأضيف إليها أفغانستان والعراق ولا يعرف ماذا بعد؟
يتحمل المسلمون جزءا من المسؤولية لا كلها. لو أن أبناء غزة ليسوا من أمة محمد هل سيكون العالم سعيدا بمأساتهم؟ قطعا لا. يكفي أن نقارن بما يجري اليوم في التيبت. لو كان سكان التيبت مسلمين لقال الإعلام أن بن لادن مقيم في جبالهم، ولو ضُربوا بالسلاح النووي لتفهم العالم طبيعة التعامل الصيني مع "إلإرهاب الإسلامي".
يحتار الألمان إلى اليوم كيف يكفّرون عما فعلوه باليهود، ويعتذر لهم البابا عما حل بهم في محاكم التفتيش. مع أن ما تعرض له المسلمون في أوروبا قبل عقد لا يقل مأساوية عما تعرض له اليهود قبل نصف قرن. ولم يحاسب العالم من اغتصبوا عشرين ألف مسلمة في البوسنة في قلب أوروبا. ولا يفسر لنا البابا لماذا لا يعتذر للمسلمين مع أنهم عانوا، بعد سقوط الأندلس، أضعاف اليهود من محاكم التفتيش.
حال المسلمين اليوم تذكر بحالهم التي وثّقها الشاعر أبو اللقاء الرندي عند سقوط الأندلس:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
هذا القتل الأول، ولا يكفي. تقتل الأمة ثانية من خلال حملات العنصرية والكراهية والازدراء التي تشوه صورتها. فنبي الرحمة والسلام يغدو بريشة رسام جاهل وعنصري نبي القتل والإرهاب.
لا يعرف الرسام أن النبي محمد عليه السلام كان، كما أنبياء بني إسرائيل داود وسليمان، حاكما ورسولا. والحاكم في كل العصور يستخدم القوة لفرض السلام والرحمة وحماية مجتمع السلام والرحمة. فهم لم يكن نبي دعوة فقط بل كان نبي دعوة ودولة. ولو اطلع الرسام الجاهل على العهد القديم الذي يؤمن به المسيحيون واليهود لوجد تجليات للقوة الحربية تفوق ما في القرآن الكريم. ولو قرأ تاريخ الحروب الصليبية لوجد تأويلات للعنف تفوق ما لدى المسلمين، ولو سأل الجنود الدنماركيين العائدين من العراق لعرف أن العنف ليس له دين.
النبي الحاكم مارس الدعوة السلمية في مكة، وفي المدينة المنورة، التي شهدت ميلاد دولته عرف البشر المساواة تحت ظل "الصحيفة" الدستور الذي تظلل به الجميع. وعندما عاد إلى مكة فاتحا، لم يترك المجال لجيوشه لاستباحة من آذاه وأذله وقتل أحب الناس إليه، أسس لثقافة التسامح: اذهبوا فأنتم الطلقاء. كان من بين الطلقاء هند بنت عتبة التي أكلت كبد عمه سيد الشهداء حمزة. وشمل العفو عبدها القاتل وحشي الحبشي. هل عرفت البشرية تسامحا كهذا؟
لم تقتصر الرحمة على البشر؛ فامرأة تدخل النار في هرة لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض. وأخرى بغي تدخل الجنة في كلب لأنها أنقذته من الموت عطشا. يروي ابن مسعود في حديث حسن: "أن حمرة -وهي نوع جميل من أنواع الطيور- رفرف على رأسه عليه الصلاة والسلام وهو جالس تحت شجرة، فقال لأصحابه: أتدرون ما لهذا الطائر؟ قالوا: لا. قال: إنها تشكو، وقال: من فجعها بأفراخها؟ ردوا عليها أفراخها، ثم أعاد إليها صلى الله عليه وسلم أفراخها في عشها" فرجعت طليقة.
في ذكرى الحبيب علينا أن نحتفل، ولو قُتلنا مرتين. فالجلاد يكره أن يرى الضحايا مبتهجين. لنحتفل ولو قُتلنا مرتين.
abuhilala@yahoo.com
الغد.