يبقى من أجمل ذكرياتنا صغاراً، تسابقنا بين البيوت حاملين أرغفة ساخنة لنوزعها على الجيران ، خبز صنعته أمي.. ووضعت بيديها الرغيف فوق الرغيف ، لتكون الأرغفة خلال دقائق سريعة رزقا مقسوما بين الجيران.
مؤخراً، أحجم صديق عن شراء دار بعد أن عرف أن جار المستقبل هو في الحقيقة مصدر ازعاجٍ للحي كله. الجار قبل الدار مقولة متوارثة وصادقة،كما أتفق أيضاً مع الفيلسوف «سيوران» الذي يقول أن كلمة جار بما تحمله من مفاهيم وروابط لم تعد موجودة أصلاً ضمن المدن الكبرى ، فكلما اتسعت المدن ذابت الجيرة ، فالجوار مفردة كانت مشروعه في الحضارات الريفيّة أو المجتمعات المصغرة، أو حين كان الناس يعرفون بعضهم عن قرب، ويُمكنهم أن يتبادلوا الحُب أو الكراهية في سلام.
من يتبادل الحب والكراهية في سلام وقد كثرت ظواهر انتهاك روابط الجوار، التي منها ماوصل إلى قضايا بالمحاكم لأسباب تافهة مثل رمي النفايات أو تصليح الأسانسير أو قطع الأشجار، أو خلافات الأبناء.
من يتبادل الحب والكراهية بسلام ونحن نستيقظ يوميّاً على أذى معلن من جارتنا في الدور العلوي وهي تتلذذ بغمر شبابيك جيرانها بالماء، أو اصرارها على رمي النفايات من الشباك، دون أن تعرف سببا لتصرفاتها سوى اصرارمعيب على المضايقة.
ويقول «شوبنهاور» ، «إن الحضارة ليست فقط في حرية الكلام، وإنما حرية الصمت أيضاً. أن تسكت، وتدعني أستمتع بالسكينة»: لقد علت الأسوار في مواجهة الجار بحثا عن الخصوصيةوالهدوء، لكن جاراً آخر يصرّ أن يبدأ نهاره بعد منتصف الليل، ويبدو مهددا ومتوعدا كلما توسله أحد الجيران حفظ سكينة الليل، كي يتمكن أطفاله من النوم قبل استيقاظهم إلى المدرسة في السادسة صباحاً.
فوق ذلك، نسكن الشقق ونرحل عنها دون أن نعرف من بداخلها، تجاوزنا البساطة والتلقائية في التعامل مع جاربالكاد نتذكر اسمه حين نهمّ بإشعال غضبناضدّه لأن سيارته تقف في المكان المخصص لنا.
ارتفعت الأسوار وتشابكت العلاقات وشغل الناس بأعباء كثيرة، ثم ابتلعت التكنولوجيا ماتبقى من رغبة للتواصل. تفهّمنا أن تراجع الجيرة قد يحدث بفعل الاضطرار، لكن المشكلة ليست في ضمور روابط الجيرة ، المشكلة الحقيقية تكمن في انتفاء القيمة، في تحويل الجيرة إلى فعل رديء.
(الرأي)