بالنسبة لما نشر حول التباينات الفكرية داخل الحركة الإسلامية، فهو أمرٌ معروفٌ ومعلنٌ، وأصحاب المواقف الفكرية والآراء الفقهية المتعلقة بحكم المشاركة السياسية يعلنون مواقفهم الصريحة بكل وضوح وعلنية، وهي مطبوعة ومنشورة منذ سنوات في كتب أو كتيبات صدرت عن دور نشر أردنية، وهي موجودة بين أيدي الناس وعلى رفوف المكتبات، ولم يعلن أصحاب تلك المواقف تراجعهم عمّا صدر عنهم طباعة أو شفاهاً.
الإشارة إلى هذا الخلاف الفكري والفقهي لا يحمل اي نوع من أنواع التشهير أو التحريض، كما ذهب بعضهم، وبعضهم أسفَّ إسفافاً شديداً في وصف المقالة التي أظهرت هذه المواقف المعروفة والمعلنة، ومن الغرابة بمكان أن هناك من ينتسب إلى الحركة الإسلامية، أو عالم الصحافة والفكر ولم يطلع على هذا الفكر حتى هذه اللحظة على مستوى الأردن في أقل تقدير، والأشد غرابة أن يعتبر ذلك من باب الإيذاء أو التحريض، أو أنه من باب نشر الغسيل كما يحلو لبعضهم أن يستخدم هذا المصطلح كناية عن نشر الأسرار، مع أن عالم الفكر وعالم الفقه والفتوى لا يعرف السرية والخفاء والتمويه.
والأمر المهم في هذا السياق أن من يحمل رأياً فقهياً حاسماً، أو موقفاً فكرياً واضحاً، عليه أن يتحمل مسؤولية ما يحمل من رأي وفكر وما يتبنى من مواقف فقهية، وأعلم تماماً أنهم كذلك، فهم يملكون الجرأة الكافية للصدع بآرائهم، وأعلم تماماً أن ذلك لا يضيرهم أبداً، أقول ذلك للأتباع الأغرار المشفقين على شيوخهم والخائفين من الوضوح وقد تعودوا على الخطاب المزدوج.
ولمزيد من التوضيح هناك ثلاثة آراء فقهية واضحة داخل الحركة الإسلامية الأردنية في هذا المجال، تأخذ أبعاداً فكرية وسياسية، وأحياناً تأخذ أبعاداً عقدية تتصل بمسائل الكفر والإيمان، وجرت حوارات عديدة ومعمقة حول هذه القضية على وجه التحديد وما زال أصحاب هذا الرأي على رأيهم ولم يتراجعوا عنه فيما أعلم.
الرأي الأول يقول بحرمة المشاركة في أنظمة الحكم الجاهلية، استناداً إلى الآية الكريمة ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))، ولكنهم يخصون الحكومة والوزارة والقضاء بهذا الحكم، ولا يجعلون المشاركة في البرلمان مشمولة بالحكم.
الرأي الثاني يقول بجواز المشاركة في الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله استثناءً، بمعنى أن الأصل هو الحرمة، ولكن تجوز المشاركة من باب تغليب المصلحة على المفسدة، ومن باب الاستدلال بفعل سيدنا يوسف -عليه السلام- عندما قال لحاكم مصر آنذاك: « قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «.
الرأي الثالث : يرى أن المشاركة السياسية في كل السلطات الحاكمة سواء في البرلمان أو الحكومة أو القضاء تأتي في باب الإباحة وهو الأصل، لأن المسألة تخلو من النص الواضح المباشر، ولا يجوز التفريق بين حكم المشاركة في هذه السلطات، لأن دور البرلمان في التشريع أكثر خطورة وأثراً من السلطة التنفيذية والقضائية وأيضاً من حيث الاستناد إلى الآية السابقة، والتفريق في الحكم بين هذه السلطات يحمل من التعسف والشطط، ما لا يحتمله النص والعقل.
لقد سبق أن قدمت ورقة بحثية بعنوان : الخطاب السياسي للحركة الإسلامية في العام (1997) بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس الجماعة، وتناولت في هذه الورقة الموقف من احدى عشرة قضية؛ الديمقراطية، المشاركة في البرلمان، والمشاركة في الوزارة، والمشاركة في القضاء، والموقف من التعددية الحزبية، والموقف من المرأة، ومن الأقليات، والموقف من الغرب، والموقف من القضية الفلسطينية، والموقف من استخدام العنف والقوة وغيرها، وبعد أن قدمت ورقتي اعتماداً على أفكار الإمام الشهيد المؤسس (حسن البنا) والمرشد العام حسن الهضيبي، وبعض الأدبيات الصادرة عن بعض مؤسسات الحركة الإسلامية في العالم، وقد لاقت الورقة اعتراضاً شديداً من أصحاب الرأي المخالف الذين يتصدرون المشهد الآن، وقالوا بالحرف الواحد : هذا ليس خطاب الإخوان، هذا خطاب رحيّل غرايبة، وبعضهم قال : يجب تغيير عنوان الورقة ليصبح «قضايا خلافية تفجيرية لتفجير الجماعة، وبقي الخلاف قائماً ومستمراً، وان اتسع مدى تأييد المشاركة من ناحية فعلية، وفي ظل التنافس على المقاعد البرلمانية.
على كل حال ما قلته عن التباين الفكري والفقهي في موضوع المشاركة السياسية فهو حقيقة موجودة، وليس فيها أي ضير ولا تجنِ على أحد، والإشارة إلى هذا التباين أمر ضروري لا يحمل أي ذرة من ذرات التحريض كما يتصور بعض صغار العقول، بل هو مجرد عرض لما هو موجود، وبإمكان الباحثين والذين يجهلون هذه المسألة أن يبحثوا فيها بطريقة علمية مجردة، وبمنهجية موضوعية، بغض النظر عن الظرف السياسي والمرحلة، بل إن الظرف والمرحلة يدعوان إلى ضرورة توضيح المواقف بجلاء، وليس في ذلك ضرر يلحق أي طرف، خاصة في ظل الاجماع على عدم جواز استعمال العنف والقوة من كل الأطراف وأصحاب الآراء المتباينة، من أجل زيادة التوضيح، وزيادة التجلية لهذه المسألة المهمة.
(الدستور)