حوار مع الإسلاميين (4) (لماذا برز نموذج داعش؟)
بلال حسن التل
07-09-2014 01:06 PM
أشرنا في مقال سابق إلى بعض أسباب بروز نموذج «داعش» ومنها: إن الحركة الإسلامية لم تنج من الأمراض التي تدعو الأنظمة للتخلص منها. بالإضافة الى عجز الحركة الإسلامية عن تقديم نموذج المجتمع والدولة المعاصرين اللذين تسعى إلى إقامتهما، وهي تدعو إلى تغيير الواقع، وعندي أن من أسباب غياب هذا النموذج أن جلّ الجماعات الإسلامية، مارست وهي تدعو إلى تغيير واقع الناس، وإقامة الدولة الإسلامية ميلاً مفرطًا إلى النظرية، وحبست ذاتها في تجارب تاريخية قامت فيها دول إسلامية، كان لكل منها ظروفها التي لا يمكن إسقاطها على واقعنا المعاصر، بل إنني أزعم أن جلّ الداعين لإقامة الدولة الإسلامية المعاصرة، فوق أنهم لا يملكون تصورًا للنموذج الإسلامي المعاصر للدولة؛ فإنهم أيضًا لم يدرسوا دراسة عميقة أسلوب قيام الدولة الإسلامية في التاريخ وخصائصها، وتجارب الدول الإسلامية التي ظهرت، وكيف قامت، وبمن قامت، ولماذا انتهت تلك الدول.. علمًا بأن دراسة وثيقة المدينة المنورة التي شكلت دستور أول دولة إسلامية في التاريخ أقامها رسول الله عليه الصلاة والسلام، تكفي للبناء عليها، نظرًا للفهم المتقدم الذي قدمته وثيقة المدينة للدولة العصرية، حتى في مقاييس القرن الحادي والعشرين، وهي الوثيقة التي تتناقض تناقضًا كليًا مع ما يطرحه أبناء الحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة عن شكل الدولة والمجتمع الإسلاميين؛ وأول ذلك: إن وثيقة المدينة أقامت الدولة الإسلامية الأولى على مبدأ المواطنة التي يشترك بها المسلمون مع غيرهم، ولم تُقْصِ أحدًا من المكوّنات السكانية ليثرب، بما في ذلك المنافقين بكل ما شكلوه من خطر على الدولة الإسلامية، ليس بالقول فقط، بل وبالفعل الغادر، كما حدث في معركة أحد على سبيل المثال. فأين هذا النموذج النبوي من سلوك الإقصاء ورفض الآخر الذي تمارسه الحركة الإسلامية المعاصرة؟.
ومثلما أقام رسول الله دولته الأولى على مبدأ المواطنة والمشاركة، فقد أقامها على مبدأ الحرية، بما في ذلك حرية الاعتقاد، إذ ضمن حرية الاعتقاد حتى للمشركين، ولم يجبر أحدًا على الدخول في الإسلام، كما أقامها على العيش المشترك.. فلم يتردد عليه السلام من الزواج من مسيحية ومن يهودية، ومارس حياة اجتماعية كاملة مع غير المسلمين من مواطني الدولة.. فكان يزورهم ويزورونه، ويأكل طعامهم ويطعمهم من طعامه، ويتبادل معهم الهدايا ويشاركهم مناسباتهم، بالإضافة إلى سائر التعاملات الأخرى، ولم يتردد عليه السلام في اقتسام مسجده مع نصارى نجران طيلة إقامة الوفد في المدينة المنورة، احترامًا منه لحرية الاعتقاد عند الآخرين. فأين الحركات والجماعات الإسلامية من هذا السلوك النبوي، وهي التي صارت تربي أبناءَها على قواعد التعصب «للتنظيم» المغلق، فأوجدت في المجتمع جزرًا معزولة مغذية لعقلية «الغيتو» فصار أبناؤها لا يقبلون حتى إخوانهم في الدين إن اختلفوا معهم في المذاهب، بل وفي الاجتهاد داخل التنظيم الواحد؟.
والمشاركة على قاعدة المواطنة التي أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم دولته على أساسها في المدينة المنورة، لم تستثن أحدًا–لا للونه ولا لدينه ولا لجنسه–فقد كانت المرأة شريكًا أساسًا في بناء الدولة المسلمة، ويكفي ان نستعرض القائمة الطويلة للنساء اللواتي شاركن في بناء المجتمع النبوي من أمثال السيدة عائشة، وأم عمارة وغيرهما لنسأل: أين دور المرأة وواقعها في برامج الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة؟ وأي نموذج تُقدم هذه الحركات لشعوبها؟ هل هو نموذج طالبان في أفغانستان؟ أم نموذج «باكو حرام» في نيجيريا؟ أم نموذج «داعش» في سوريا، والعراق؟ أم نموذج الإقصاء والتهميش والتحرش في مصر؟.
لقد فشلت الحركة الإسلامية المعاصرة حتى اللحظة في رسم صورة للنموذج الذي تريده للمجتمع الإسلامي الذي تدعو إليه، وقد خدعها عن العمل لوضع هذا النموذج سيادة الخطباء على المفكرين فيها، كما خدعها ما حققته من نجاحات جزئية في بعض الميادين والدول، وقد فاتها انها فازت بصناديق الاقتراع في الانتخابات جراء المضامين الحماسية لخطبها ضد الفقر والبطالة والفساد، لكنها عندما حكمت أو شاركت في الحكم لم تقدم شيئًا للإسهام في حل مشكلات الفقر والبطالة، لأنها لم تكن تملك برامج لمواجهة هذه المشكلات، بل لقد انصرف بعض وزرائها ونوابها إلى الحصول على امتيازات لم تتوقف عند حدود الراتب والتقاعد، بل امتدت لتشمل الحصول على أعطيات ومكاتب تكسي ورخص تجارة.. حتى في أكفان الموتى.
ليس الخطاب الحماسي وحده هو الذي ضمن النجاح الجزئي للحركة الإسلامية في الانتخابات، بل لقد استطاعت هذه الحركة ان تستثمر العمل الاجتماعي للوصول إلى أصوات الفقراء، وهذه ممارسة أخرجت مفهوم الزكاة من هدفه الرامي إلى إخراج الفقير من فقره، وتحويله إلى قوة منتجة، وحولته إلى ورقة ضغط في المواسم الانتخابية عندما لم تسع إلى معالجة الفقر معالجة حقيقية من خلال مشاريع إنتاجية ليظل الفقراء مجرد خزان للأصوات الانتخابية.
ومثلما لعب الخطاب الحماسي والعمل الاجتماعي دورًا في النجاح الجزئي الذي حققته بعض الحركة الإسلامية عبر صناديق الاقتراع، فإن توظيف المال السياسي من بعض الدول لخدمة بعض جماعات الإسلام السياسي، قد ساهم في نجاح هذه الجماعات في صناديق الانتخاب. فمن المعروف ان يلعب دورًا رئيسًا في ضمان الفوز في الانتخابات.
عامل آخر لعب دورًا رئيسًا في نجاح الحركة الإسلامية، هو تغلغل أفراد هذه الجماعات في أجهزة بعض الدول وتسخيرها لاستقطاب المحاسيب وخدمتهم والحصول على أصوات الناخبين..
ومما ساعد أيضًا على نجاح الحركة الإسلامية، خاصة في الانتخابات المختلفة ضعف الأطراف الأخرى واندفاع الناس العاطفي نحو الإسلام، وليس القوة الذاتية للحركة الإسلامية.
خلاصة القول هي: إن النجاح الجزئي في المجال السياسي والانشغال بمكاسبه، صرف الحركة الإسلامية عن الانشغال ببناء النموذج المتكامل للمجتمع والدولة العصرية المستلهمة من التجربة النبوية، كما أن تربية أبنائها على عقلية الولاء للتنظيم المغلق والقلعة المغلقة، وعلى إقصاء الآخر ورفض مشاركته، كلها أسباب ساهمت في نشوء فكر التعصّب والتكفير، ومن ثم بروز نموذج «داعش» وأخواتها.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com