كيمياء الكتابة .. وأشياء أخرى!
مسَـلم الكساسبة
21-03-2008 02:00 AM
يحدث مرات أنك تريد أن تكتب حول موضوع ما يستفزك أو يستهويك أو يثيرك ويلح عليك أو أحيانا تحتاج شخصيا أن تكتب فيه لأنك عانيته وكنت على تماس معه ...الخ . لكنك لا تستطيع!
تمسك القلم أو تجلس إلى الحاسوب أو إن كنت ماشيا مثلا وغير متهيئ لك عدد وأدوات الكتابة فتحاول الكتابة في ذهنك ولملمة فكرة ناضجة متبلورة عن الموضوع تكون بداية ناجحة فيما بعد .. لكنك تجد أن جملة تطاوعك وأخرى تتأبى وتنفر مثل حصان بري شرود .. وإذا كان ما تحاوله شعرا مثلا تجد الكلمات تنفر منك وتعاندك فتضطر لتركها على أمل أن تنضج الفكرة فيما بعد . لكن هذا الانتظار قد يطول أحيانا جدا..
كنت وما زلت من عشاق صوت فيروز ..
وأردت ذات مرة – ربما لا يقل عن عشر سنين إن لم يكن أكثر - أن أعبر عن هذا الإعجاب شعرا فكان هذا البيت الذي أصبح هو المطلع والخاتمة وكل القصيدة :
أي سر تذيعه نجواك ...... هو بوح النجوم للأفلاكِ
حاولت أكثر من مرة أن أواصل بأبيات أخرى تكون بنفس وتيرة ومحتوى والمطلع فكان إلهام الشعر لا يطاوعني ولم أستطع شيئا بعده؟!! تجيء أبيات لا أرضى عنها .. وما أرضى عنه لا يجيء فأعود وأغض النظر عن الفكرة وأؤجل !
وعندما اشتعلت موجة الغلاء البشع قبل سنوات فارتفعت أسعار مواد البناء وتامين السيارات كتبت مجموعة أبيات غاضبة .. ربما لم تزد عن خمسة أبيات وكان في ذهني أن تكون قصيدة طويلة.. كان هذا منذ بضعة سنوات لكنها توقفت بي عند ذلك :
تسأليني لم الأسى أنت أدرى.....يا ديارا أجـــوع فـــــيها وأعــرى
أي أم خـلـــــــت بنيها جياعا.....وهي تسقي من صدرها الغير درا
أي دار يأوي لها كل حــــــي......من شتات الــدنا فتـأويه قــــــسرا
يشرب العابرون منها قراحا.......والذي أنجبت فتسـقيه عــــــكرا
غيرهم ناعمون فيها وتلفي.....أهلــها في الــــعراء يلقون شرا
ثمة قصيدة أخرى هي أيضا لم تكتمل وفي نفس السياق:
أشكو إلى الله لا أشكو إلى احد.... جوعا وخـسفا وذلا فيك يا بـــلدي
بنوك جاعوا وضاعوا في ديارهم... جار اللئام على الأيتام وا كبدي!
يعطوك من كل شاة ظلفها ولهم... ما ظل منها وقد مـنوك بالـرغـــد
باعوك من لو يشاءوا باع واحدهم... قفاه للصفع هذا اليوم قبل غد
لكننها توقفت هنا وما زالت القصيدة بانتظار أن تستكمل ..احد التفسيرات أن موضوع ومادة الكتابة أحيانا تتعلق بنبؤة ما لأحداث ما زالت مستمرة ولم تكتمل بعد ولم تأخذ شكلها النهائي وتداعياتها التامة لذا يتوقف إملاء الإلهام الشعري أو الكتابي ريثما تتبلور الأحداث ذاتها وتأخذ شكلها التام أو شبه التام ..ربما؟ بمعنى أن بعض القصائد والأعمال تكملها الأحداث ذاتها التي تغذي مخيلة الشاعر من جديد لاستكمال العمل؟ لذا يتوقف بك العقل اللاواعي ريثما يتبلور الحدث ذاته ولكي يكون العمل بدوره مكتملا منطقيا .
وقبل أشهر توفي شاب في حادث سير فظيع وكنت اعرفه جيدا وكان يستعين بي وهو تلميذ في المدرسة في شرح بعض الدروس خاصة قواعد اللغة وما شابه حيث كان يطلب المساعدة بنفسه .. وعندما علمت بخبره شعرت إضافة لتأثري عليه كإنسان بأن جهدي الذي بذلته في تعليمه قد ذهب هدرا.. وشعرت برغبة أن أقول شيئا فيه وما زلت لكنني لم أستطع ..وكلما كتبت جملة أو جملتين شعرت أنها مفككة وغير صالحة للنشر فعدت لغض النظر عنها .. ومنذ أيام سألني والده عن ذلك مستغربا كيف أنني لم اكتب عنه شيئا لكنني لم استطع أن أشرح وأفسر له سبب ذلك لان هذا العذر سيبدو لغير المجرب غريبا .
ربما بعض الكتاب يختلف الأمر لديه فيستطيع أن يكتب عما يشاء في أي وقت يشاء.. وهو جاهز ليكتب غب الطلب أيضا ..على طريقة مواضيع الإنشاء في المدرسة .. اكتب عن الربيع فيكتب أو عن الشتاء أو عن البحر أو عن الكُتاب الذين لا ترضى عنهم الحكومات أو عن المواطنين الذين يشكون من الغلاء بطرا فيكتب! أو عن المواطنين الذين يتعمدون حوادث السير رغم أن الطرق عندنا بمواصفات عالمية وسياراتنا آخر موديل وبنزيننا وثقافتنا المرورية ومحلات الصيانة ..الخ فيكتب .. ما عنده مشكلة .. وهو يذكرنا بافتتاحيات الصحف التي تأتي لتمجد القرارات الرسميه وتمتدحها وتبرز جوانبها التي هي دائما جوانب جيدة وفضلى وايجابية حسب تلك الافتتاحيات .. ولا يمكن أن يحصل ولو مرة أن لا يستطيع كاتب تلك الافتتاحية أن يواكب الحدث الرسمي بقلمه وينير جوانبه المشرقة والبهية!
وكثيرا ما كانت تمر ظروف وأحداث وأكون بحاجة أن اكتب عن ذلك الظلم بالذات أو ذلك الكيد والمكر بالذات أو ذلك اللؤم والخبث أو ذلك المكر السيئ بالذات .. وحينما لا تطاوعني القريحة اشعر بالاختناق والضيق .. لكن بعد مدة قد تطول أو تقصر وبلا سابق إنذار اشعر وكان شيئا يملي علي فأكتب وكأنما الفكرة لم تنس أو تضع كما كنت احسب حينما لما لم أستطع التعبير عنها في وقتها .. بل كل ما حصل أنها استدمجت لتختمر في العقل الباطن وأخذت الوقت الكافي حتى تحولت من رمل إلى لؤلؤ وإذا الأفكار والكلمات تأتي متسلسلة لوحدها وبلا أي جهد أو عناء..سوى جهد كتابتها .
ثمة شيء آخر يرتبط بالكتابة وهو الطقوس .. فالبعض له طقوس خاصة وعادات أثناء الكتابة .. بالنسبة لي هذه الطقوس المحددة غير موجودة.. لا طقس للكتابة سوى الكتابة ذاتها.
هناك كتابة هي الهام وإبداع وخلق ، وكأي الهام وإبداع له شروط وظروف ودورة نضج واكتمال حتى يختمر ويتبلور ويولد تاما وناجزا..
ونستطيع أن نحصل على عسل ما أو حرير ما أو لؤلؤ ما أو في أي وقت نشاء ..
لكن ثمة عسل بالذات لا نستطيع أن نحصل عليه إلا في الربيع وتفتح الزهور!
وثمة حرير بالذات لا نستطيع الحصول عليه إلا ما تنسجه دودة القز ما سواها في موسم ما .
وثمة لؤلؤ بالذات لا نستطيع أن نحصل عليه إلا من قاع البحر وجوف المحار بعد أن يبتلع حبة رمل وتمكث في جوفه مدة وزمنا محددا !
msallamk@yahoo.com