حول حرية التعبير، والديمقراطية
مالك العثامنة
10-03-2007 02:00 AM
الجدل حول الحرية الصحفية، وحق التعبير جدل طويل عموما، وما يحدث على الساحة الإعلامية الأردنية ليس سابقة تاريخية جديدة، بل هو جزء من عملية التحول الديمقراطي المستمرة، وهي عملية تنموية تتطور دائما وأبدا، ولا تقف عند نقطة نهاية محددة نقف على خطها ونقول"ها قد أنجزنا الديمقراطية".
إن القوانين تتطور حسب تطور المجتمع في حراك إجتماعي معقد أطرافه منها الظاهر ومنها المخفي، وعليه فما يجري –بغض النظر عن النتائج الآنية- هو إشارات لظاهرة صحية في التطور المجتمعي نحو دولة المؤسسات والقانون.الديمقراطية الحديثة التي بدأتها أوروبا كلفت شعوب تلك القارة قرونا من الدم، ولم تكن فكرة ساعة ولا وليدة لحظة، بل لها حراكها الاجتماعي الخاص بها وحسب حالاتها الوطنية ذات الخصوصية، لذا نجد أشكال الديمقراطية متعددة ومتفاوتة، لكنها متفقة من حيث الجوهر على أن هناك عقدا بين حاكم ومحكوم، والعلاقات جميعها وبكل مستوياتها تنظمها القوانين التي يشرعها ممثلوا الشعب أو الأمة!
..كان هناك كنيسة وسلطة دينية تمتزج بدكتاتوريات طبقية مرده تقسيم "اجتماعي" بين الناس حول طبقة أرستقراطية وطبقة عاملة وبينهما نشأت طبيعيا طبقة برجوازية تعمل كمانع احتكاك، ثم حراك اجتماعي له مفاصله التاريخية المؤثرة، ثم ثورات وكثير من الدم المسفوح تخلله نظريات ومفكرين، وأفكار لم تكن تحلق في فراغ بل نبعت من دراسات حالات على الأرض، لتتبلور في النهاية النظرية الديمقراطية.
في عالمنا العربي عموما، أخذنا الوصفة جاهزة، بدون أن نعاني من كل الأعراض التي أوجدتها، وبتنا نطالب بتطبيق الوصفة دون التمحص في دراسة حالتنا وتوليد ما يطابقها من المطلوب والمنشود، فكانت الديمقراطية لدينا أشبه بنقل نبتة أمازونية إلى الربع الخالي، وانتظرنا إحدى نتيجتين، إما أن يتحول الربع الخالي إلى أمازون، أو أن تموت النبتة!!
..لم يفكر أحد –مجازيا- بالربع الخالي نفسه، وما يمكن استنباته فيه لخلق حياة، وهذا ممكن لو أبدعنا في واقعنا ذاته.
..في الصحافة الحرة، عموما، كانت البداية في وجود ما ولد الحاجة إليها اجتماعيا، وكانت الأفكار الليبرالية هي المحرك الأول لوجود فكرة حرية التعير للفرد، وهي حرية لا يمكن القول أنها "محددة" بقانون، بل هي "منظمة" بقانون لحماية الحرية المطلقة لباقي الأفراد، وهنا الفرق بين التحديد وبين التنظيم.
وعموما مرة أخرى، فإن السائد لدى "الليبراليين الجدد" في عالمنا العربي المعاصر أن يأخذوا الصحافة الغربية والأمريكية بشكل خاص نموذجا للحرية، غافلين عن حقيقة مفادها أن التعديل الأول في الدستور الأمريكي مثلا، وهو التعديل الذي يشكل رمزا للصحافة الحرة، لا يزال مدار جدل واسع وعميق منذ 200 سنة حتى الآن، ولا يزال الكثير من المفكرين والليبراليين حتى في أمريكا يضعون التعديل تحت التساؤل إن كان وجوده خطأ ام صوابا، وهذه أيضا استمرارية للظاهرة الصحية في التطور اللانهائي للمجتمعات ، إن المجتمع الذي لا يتطور باستمرار ويتغير باستمرار هو المجتمع الميت، ومكانه الوحيد الدراسات التاريخية والحفريات الأثرية.
لقد كتب فرد. س. سايبرت في مقالة بعنوان النظرية الليبرالية لحرية الصحافة: "لفهم المباديء التي تحكم الصحافة في ظل الحكومة الديمقراطية، ينبغي للمرء أن يفهم فلسفة الليبرالية الأساسية والتي تطورت طوال الفترة بين القرن السابع عشر و القرن التاسع عشر".
إن ما يقوله هذا المفكر الليبرالي يلخص ما نريد الذهاب إليه، وببساطة، لقد تطلب تطور الفلسفة الليبرالية في المجتمع الأمريكي ثلاث قرون، وهو تطور اجتماعي شامل، وليس تطور لحظي في صياغة قواعد قانونية، القاعدة القانونية قد تكون جملة قصيرة أو فقرة من سطرين، لكنها تختزل كل المفاهيم والقيم الاجتماعية في الذهن الجماعي العام، وهو ما نسميه تطور الوعي.
..فلنطبق على أرض الواقع مثالا بسيطا، ولنحكم!
الليبرالية متفقة على أن "حرية التعبير هي حقَ لا تمنحه الدولة بل حق يتمتع به الفرد وفق القانون الطبيعي"، كلام جميل ومثير ويصلح لتعليقه داخل برواز من خشب البلوط، لكن فلنفكر قليلا...
حق لا تمنحه الدولة!! يعني ان الدولة هنا ناظم للعلاقات بالحد الأدنى من التدخل، مما يعني أن الفراغ الناشئ عن ذلك تكفلت به قوى مجتمعية أخرى توافق عليها المجتمع من ضمن ذلك السوق والاقتصاد الحر، ومؤسسات منتخبة شعبية بدءا من الأحياء مرورا بالمدن.
يعني، لا توجد مؤسسات تناقض هذا الانسياب الاجتماعي مثل مؤسسة العشيرة، ومؤسسة القبيلة، واقتصاديات الاحتكار المحمية بقانون ذوي المصالح، ولا هي محكومة بتفاوت طبقي اقتصادي يجعل ممن يملكون أكثر قدرة على التحكم ممن لا يملكون!
يعني أيضا، وبتسطيح أكثر،أنه لا يحق لأحد مطالبة الدولة بعدم رفع الدعم عن المحروقات، ولا رفع الدعم عن المواد الأساسية، بل تركها لحركة السوق "المتوازنة افتراضا"، والدولة هنا ليست لحماية الأقل حظا، وهو مصطلح لا يتناسب مع مجتمع ليبرالي، وهي ليست ملاذا لأحد دون آخر، ولا فئة دون أخرى، بل هي مجرد ناظم لعلاقات متوازنة بالطبيعة وحسب القانون الطبيعي للأشياء.
وأيضا الدولة ليست ريعية، والمجتمع وصل إلى حالة توازن لا يحتاج فيها "أبوة" الدولة، ولا تدخل الأخ الأكبر.السؤال الذي يساوي مليونا الآن( هل وصلنا إلى هذا التوازن أو حتى حدوده الدنيا في مجتمعنا العربي عموما، والأردني خصوصا؟)
والسؤال الاستنكاري الوليد من أحشاء السؤال السابق( ألا نحتاج إلى توقيتنا الطبيعي في التطور نحو تلك العلاقة المجتمعية وتحقيق تلك التوازنات التي يحكمها القانون الطبيعي للأشياء؟).
..وعودا على بدء، أقول أولا أن تلك الحالة من التوازن والتي تخفف من الدور الأبوي للدولة، حالة موجودة في مجتمعات الرفاه في بعض البلدان، وصلتها وحققتها، لكنها أخذت وقتها الطبيعي في التطور، وتاريخها القديم يحمل ما نعاصره بالضبط من حراك، لذا أكرر أن ما يحدث هو ظاهرة صحية في سياقها الطبيعي.
..وفي الصحافة، والقوانين التي تظم العمل في الإعلام، فقد درجت تسمية الصحافة بالسلطة الرابعة، وهي تسمية تستحقها المهنة، ويستحقها منتسبوها لكن..
حين قسم مونتسكيو السلطات في الدولة وفصلها مع مرونة في التقاطعات بينها إلى ثلاث( تشريعية وتنفيذية وقضائية) فإنه افترض مجتمعا ليبراليا يؤمن من صغيره إلى كبيره بدور القانون كناظم للعلاقات، وليس محددا لها، وهنالك فرق مرده الوعي الاجتماعي لدور القانون.
وفي مجتمعاتنا، وعلى أبسط مثال، فإن قطع إشارة حمراء بعد منتصف الليل في شارع خالي يعني أن الوقوف أمام الإشارة الحمراء مرده الخوف من رقابة القانون، وليس احتراما له كناظم لحقك في المرور. إن مجرد الوصول إلى عمق تلك الفكرة يعد إنجازا مجتمعيا مذهلا.
وعليه، فإننا لا نذهب بقولنا إلى أن السلطات الثلاث غير مكتملة الوعي، بل نقول أن الوعي لم يكتمل بمعنى السلطات الثلاث والفصل بينها، وحين نصل – طبيعيا- كمجتمع إلى هذا الوعي، فإن السلطة الرابعة بلا شك هي الصحافة الحرة والمسؤولة أمام قانون ناظم وليس محددا.
وحينها ينطبق تماما على الواقع ما قاله إدموند بروك مرة أمام أعضاء مجلس العموم البريطاني( ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف البرلمان، لكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منكم جميعا).
وقد يكون للحديث بقية...
mowaten@yahoo.com