عندما قرأت الجملة الشهيرة للكاتب الفرنسي إندريه موروا «العالم يدين للعصور الوسطى بأسوأ اختراعين في تاريخ البشرية وهما الحب الرومانسي والبارود» ، تخيلت الأردن من أعلى ربوة في العاصمة عمان حيث أفواج الطلاب وجيش الإدارة المدنية المجحفل والأشقاء الذين لجأوا للأردن هربا من ويلات بلادهم وجحيمها، والمعاناة الاقتصادية التي يرزح تحتها الوطن ، مقابل ثغر يحرسه الجند المستنفر في سهول الحدود الشمالية و الشرقية الملتهبة ،فلا سهول ورد هناك ولاقصائد حبٍ رومانسي على ضفة البلد الأخرى ،ليس هنالك سوى البارود ،ملح الشيطان الذي اخترعه الإنسان ليختصر وقت الفتك بأخيه الإنسان ، ولكن يبقى الأردن رهين التاريخ ما بين ورد حضارته واستقراره وأمانه ، وبارودٍ لا علاقة له به ،كما نرى الصورة اليوم عند أشقائنا هداهم الله.
حديث جلالة الملك الخميس الماضي أمام قمة «النيتو» في ويلز هو رسالة الحب الذي يحارب البارود ،فتحذير الملك من مغبة التقاعس العالمي في معالجة الأزمات في العالم العربي وعدم إيجاد حلول لها إضافة الى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي البارد والحربي، هو بالفعل تعليل لما يغذي وينمي ويدعم حركات التطرف والراديكالية الدينية والمذهبية ويزيد في نمو المجموعات الإرهابية التي تهدد السلم والأمن والاستقرار وتشكل خطرا حقيقيا على البيئة الاجتماعية والسياسية ، وذلك الخطاب ليس الأول ولن يكون الأخير باعتقادي والذي يحمل أفكارا وشروحات ووصفات مساعدة لتلافي العديد من الكوارث السياسية والأمنية التي يضطر العالم الغربي للتعامل معها كلما انتهى عقد عربي أو استجد.
لو عاد المستمعون الى الخطابات الأٌولى للملك والتي شرح فيها نظرة الأردن الى مستقبل الشرق الأوسط العربي قبل الغزو الدولي للعراق 2003 والخشية من ظهور حدود واضحة للطائفية الدينية والطائفية السياسية ، لعرفوا كم من الوقت أضاع العالم وكم من الثروات بدد وكم فقد من الإستقرار قبل أن يفهموا أن العالم العربي بحاجة الى دعم التنمية البشرية وصناعة الإنسان حسب الطبيعة العربية وليس كنسخة عن الثقافة الغربية أو الشرقية وأن احتلال العراق وتركها للطوائف فتح باب الجحيم ، وأن البارود لا يمكن أن يدعم زراعة الورود ، ولوجدوا أن الملك هو أكثر زعيم عربي تحدث عن مشاكل الشرق الأوسط طيلة عقد مضى ،أمام المحافل الدولية أو عبر الإعلام.
حديث الملك هناك كان فرصة ليفهم قادة العالم وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما أن الدعم المطلق لإسرائيل لم ولن يحل أي مشكلة على الأرض الفلسطينية ، حتى وإن كانت إسرائيل شريكا استراتيجيا وحليفا عسكريا ،وأن على امريكا وأوروبا أن تدعم قوى الاعتدال والدول المدنية كالأردن ليبقى قويا خارجيا كما هو داخليا أمام الإرهاب والتطرف ، وحتى تكون الولايات المتحدة ومثلها بريطانيا والاتحاد الأوروبي تمتلك النزاهة لتعاقب الإرهاب في العالم العربي ، فعليها أن تكبح جماح الوحش الإسرائيلي الذي لا يختلف عن أي تنظيم إرهابي يقتل الأبرياء ، وأن تساعد الفلسطينيين على العودة الى حياتهم الطبيعية وحقهم في العيش آمنين، وإلا فستبقى الحروب ودعوات الجهاد تثور كالبراكين.
الأردن الذي يكشف الملك أنه أكثر من يفهم ما يجري وما ستؤول إليه الأحداث التراجيدية على الجبهتين الداخليتين السورية والعراقية لا بالنسبة لتنظيم «داعش» فحسب ، بل مع كل أطراف الصراع ، وإن كانت المضخة الإعلامية الغربية قد ضخمت تهديد داعش وقللت من الشأن الأردني ، فإن الاستقرار ومتانة الجبهة الداخلية الأردنية والقوة العسكرية والاستخبارية فيه ستدرأ بحول الله أي خطر خارجي ،ولكن الأهم هو عدم استغلال مرحلة الضباب السياسي والتجاذبات الخارجية نحو الأردن من أطراف تريد أن تحقق مآربها ، فعندها لا فرق ما بين عدو خارجي وأخ يساعد على زعزعة الإستقرار محاولا دخول الجنّة بذبح بلده قربانا لوليه الصالح والطالح على أرض سوريا أو العراق أو أي مكان ، فالعدو هو العدو هنا أو هناك.
(الرأي)