اليوم كان مختلفا عن ايام الجمعة التي امضيتها في بلادنا عبر اكثر من خمسة عقود، وذلك لسببين: الاول، لانني ساقوم بدور الدليل السياحي الذي لا اجيده كثيرا، والثاني، كان علي ان اضع برنامجا يحظى بتقدير ضيفنا ويمنحه اطلالة على الاردن غير التي عرفها عبر اكثر من اربعة عقود.
فالضيف ليس سائحا عاديا.. ولا عابر سبيل.. بل هو شخص عرف الاردن واحبه وتردد على عمان منذ ستينيات القرن الماضي ليلتقي الساسة والمثقفين والقائمين على وسائل الاعلام في بلادنا.. ويشارك في العشرات من الاحداث الفنية والثقافية والاعلامية والسياسية. فالرجل كان شاهدا واعيا على احداث العصر منذ ان قامت ثورة مصر في 23 يوليو.. الى ثوراتها في 25 يناير وثوراتها المضادة.. وما بين هذه الاحداث من تقارب وتنافر وصراع عربي لم يكن الرجل بعيدا عنه بالرغم من انه كرس جل وقته لصناع الحياة من الفنانين والمثقفين.
مفيد فوزي الذي لم يفقد دهشة التعلم والاستكشاف مدرسة اعلامية عربية تحظى باحترام اجيال من الاعلاميين الشبان.. فهو يفرق بين التهريج والاستعلام.. ولا يقتنع بالاجابات العابرة.. يأسرك بصمته الممنهج ويحرص على ان يستمع ويرصد ملامحك بعد كل سؤال يلقيه على مسامعك او يباغتك به.. يتعمد حرمانك فرص الانشاء والتأليف التي قد تجمل الواقع وتخفي ملامح الحقيقة التي لا تنجح الصحافة ان لم تحاصرها وتأسرها.
عبر ما يزيد على عقدين لم تكن احداث وحكايات ومشكلات مصر بعيدة عن صيد عدسة مفيد فوزي الذي جعل من برنامج حديث المدينة اكثر البرامج اصغاء الى اوجاع الناس ومﻻحقة الى الحقيقة الضائعة بين روايات المسؤولين وشكاوى الغلبانين.
مع انني كنت أميل الى الذهاب الى جرش وعجلون باعتبار انهما اكثر محافظاتنا خضرة ولابدد جزء من الانطباع الذي يكتسبه الزوار لبلدنا عندما يطالعون اراضينا من نوافذ الطائرات وهي تناور وقت الهبوط فهم لا يرون غير امتداد الصحراء شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.. فباستثناء بعض مزارع الزيتون المجاورة للمطار يحسب الزوار ان بلادنا تلال ورمال وغبار.
حاولت زوجتي الغالية ان تقنعنا بأن مادبا خيار افضل.. لا ﻷن اقتراحي اقل وجاهة بل ﻷن الضيف اكثر اهتماما بالتاريخ وفي مادبا فرصة لزيارة الاماكن التي تذكي في النفس احساسا بالتاريخ الذي شكل
اركولوجية العقل الجمعي للبشرية. فمكاور ...وجبل صياغه.. او جبل نيبو ..والكنيسة التي اقيمت على الجبل الذي وقف عليه موسى...والاطلالة على المغطس...والنظر الى بحيرة لوط.. ومناظرة جبال القدس.. ومدينة خليل الرحمن يمكن ان تشحن روحك بطاقة روحية قد تفوق قدرتك على الاحتمال.
لقي اقتراح نسرين قبولا من ضيفنا وقررنا ان ننطلق قبل الظهر الى مادبا عبر الطريق الغربي...وامضينا الرحلة في الحديث عن مادبا وجوارها باعتبارها احد المراكز الحضرية التي اكسبها التنوع الثقافي والاجتماعي والديني خصائص اسهمت في تعميق الروابط وتماسك البناء.
امضينا نصف الطريق ونحن نتحدث عن كتاب مفيد الذي اصدره حديثا تحت عنوان"نصيبي من الحياة " وعن مصر والتاريخ الذي عايشه مفيد ولا يزال مشتبكا مع صناعه...استعرضنا بعض القضايا التي تواجه مجتمعاتنا واشكال الاستجابة لها...في النصف الاخر من الطريق الى مادبا تحدثنا عن المدينة التي ترتبع في وسط اخصب الحقول التي فاضت على اهلها وجيرانها خبزا وقمحا وتبغا.. تنقل اهلها بحرية بين ضفاف النهر فبالنسبة لمادبا ينتقل الرهبان والاساقفة والشماسينن بين رام الله والقدس ومادبا والكرك وبيت لحم بحرية قبل ان يجثم الاحتلال على نقاط العبور ويسد المنافذ بين اديرة بيت جالا وكنائس المدينة التي احتضنت خرائط الفسيفساء للعالم القديم.
ما ان توقف محرك سيارتنا حتى قفز اصغرنا عبود وسار بخطوات اقرب ما تكون الى الجري باتجاه الكنيسة التي تشرف على المغطس وتناظر جبال فلسطين التي تقول الكتب المقدسة ان موسى وقف على واجهة الجبل واشار على البلاد التي لم يدخلها..تبعنا عبود واخذنا جولة سريعة في اطراف الكنيسة التي يجري ترميمها بعد ان حظيت بزيارة الحبر الاعظم للمرة الثالثة واصبحت محطة على طريق الحج المسيحي الذي يعد الاهالي بسياحة لم تصل الى المستوى الذي رسمت ملامحه الامال والبيانات.
بعد استكمال جولتنا القصيرة تهيئنا لمغادرة المكان....وما ان التقطنا بعض الصور حتى داهمتنا افواج من الشباب المصريين العاملين في الاردن الذين نظموا رحلة للكنيسة فتحلقوا حوله وتدافع الجميع لالتقاط الصور معه .....باعتباره رمزا اعلاميا ونجما معروفا بقي يؤدي الدور الذي احب لاكثر من خمسة عقود دون ان يغريه بريق السلطة في المواقع التي يتزاحم عليها الباحثون عن المال والنفوذ.
وقبل ان نتوجه الى محطتنا التالية رأت زوجتي ان الرحلة لا تكتمل الى هذا المكان دون زيارة المتحف....الذي اختار مؤسسوه ان يكون تحت اسم الحكاية...
المتحف الذي اسسه الشاب الذي أمن بحكايات المكان واهمية تجسيدها وايصالها الى كل الزائرين..
لقد حرص سامر الطوال الذي يشبه وجه مادبا المنبسط ويحمل سماحة روحها ان يعرف الزوار انهم في بقعة جغرافية تتزاحم فيها الاحداث التي صنعت التاريخ..فما ان تدخل المتحف الذي تتوالى فيه التشكيلات البصرية المعبرة عن احداث التاريخ بتراتب يشعرك وانك تسير في رحلة عبر الزمن الذي تحدثت عنه الديانات فتمر على سفينة نوح ...وعصا موسى وتعميد المسيح والعشاء الاخير...الى ان تتوصل إلى تاريخ بلادنا الحديث...
على الجانب الاخر يمكن ان ترى جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية للبلدات الاردنية ...فترى اللباس والطعام والنشاط الاقتصادي والحرف والمؤسسات واشكال الحياة التي صممت بعناية بالغة وجرى تزويدها بالمؤثرات التي تجعلك تحسب انها شيء من الواقع.
تاريخ مادبا وتراثها المادي والروح التي تحيط به رسالة نجح سامر في تجسيدها ونقلها ليقول لزواره ان لمكاننا حكاية ولامتنا هوية ويدعوهم الى تامل المراحل التاريخية التي شكلت سيكولوجية الانسان واستوطنت وجدانه...
لقد سعدت كما سعد افراد اسرتي بثناء الضيف على الجهد العظيم الذي قام به مؤسسو المتحف والاعجاب بالتشكيلات التي احيت تاريخ وحكاية المكان...
في هذا اليوم كان لمادبا وصياغة والتاريخ صورة ومعنى..اتمنى ان يراها المادبيون والاردنيون قبل ان يراها السواح .
المبادرة التي اطلقها الشباب المادبيون لروتية قصة المكان نموذج للمشروع الوطني الذي نحتاج له في خلق فهم مشترك لهويتنا التي نبحث عنها بين مئات القصاصات المبعثرة ...
شكرا ل سامر الطوال... وشكرا لرفاقة في متحف الحكاية...لقد امديتمونا بنموذج رائع واتحتم لنا ان نطوف معكم في رحلة على جدار زمن مادبا...فنراها كما ترونها..وخلصنا الى نتيجة مفادها ان مأدبا اجمل عندما تراها بعيون ابنائها.