ثلاثة أيام بعد المائة, انقضت على شغور كرسي الرئاسة في قصر بعبدا اللبناني, فيما يستعيد لبنان جثث بعض جنوده الذي خطفتهم جبهة النصرة وداعش بعد غزوة «عرسال», بلا رؤوس, قام الارهابيون بذبحها ولم يفرقوا في واقع الحال بين شيعي وسُنيّ, ما بالك بالمسيحي؟ ولكن ارتكاباتهم البشعة هذه تستبطن «رسائل» لكل من يهمهم الامر في طوائف لبنان و»نُخَبِه» الحزبية والسياسية والدينية وخصوصاً قيادة جيشه, بأن عليهم اذا ما ارادوا تجنب المزيد من قطع الرؤوس وحزّ الرقاب, أن يستجيبوا لمطالب «الارهابيين» السوريين, وخصوصاً أهل السنّة منهم الذين يجب أن يتماثلوا مع خطاب هؤلاء, فيما الروافض الشيعة واتباع عيسى بن مريم, فهم اعداء تجب ابادتهم أو اخضاعهم أو تهجيرهم, ما بالك ان مطلبهم الاساس اليوم هو «مقايضة» الجنود الاسرى أو المخطوفين بـ»شيوخهم وأسراهم» من الاسلاميين, المحتجزين أو المحكومين في سجن روميّة, ما يضع الحكومة اللبنانية في وضع لا تحسد عليه, وبخاصة أن قبولها بمثل هذه المقايضة, سيفتح عليها باب الابتزاز على مصراعيه, ويُجبرها بالتالي على الرضوخ لأي مطالب لاحقة من هذا القبيل, وعندها لا تصبح دولة (بافتراض انها كذلك الان أو كانت قبل ذلك) ما دامت قبلت ان تتعاطى بهذا الخضوع مع منظمات ارهابية, فرضت نفسها بالعنف والبلطجة والاجتياحات والوحشية, فضلاً عمّا يمكن أن يصل اليه الجدل بين الافرقاء اللبنانيين الذين لا يعدمون وسيلة أو حيلة, لتأجيج الصراعات وشحن الغرائز, وإبقاء البلاد في حال من التوتر والمواجهات المصاحبة لانهيار الخدمات والمرافق العامة وارتفاع الاسعار وتدني مستوى التعليم وارتفاع نسبة الفقر والبطالة وخصوصاً المديونية.
هنا, حضرت أيضاً مسألة «الشغور» الرئاسي بعد فشل مجلس النواب اللبناني للمرة الحادية عشرة في عقد جلسة قانونية (توّفر ثلثي اعضاء المجلس البالغ عددهم 128 نائباً), ما دفع رئيس المجلس نبيه برّي الى تأجيل الجلسة ليوم 23 ايلول القريب، عندها طرح فريق 14 اذار ما وصفها بـ»المبادرة», تقوم على سحب مرشحه سمير جعجع مقابل البحث مع فريق 8 اذار عن اسم «مرشح توافقي»، ما يعني استبعاد الجنرال ميشال عون من المسابقة، الأمر الذي اعتبرته اوساط فريق 8 اذار بمثابة طرح «قديم غير مُعلن» يوحي بفشل المشروع الاخر فشلاً ذريعاً.
رَدُ فعل فريق 8 اذار الرافض للعبة شراء الوقت التي يلجأ اليها فريق 14 اذار, تشي بأن الامور في لبنان «مُش ماشية» وان الازمة الرئاسية ستتواصل, ليس فقط لأن فريق 14 اذار بات حتى اللحظة وفي المدى القريب ايضاً غير قادر على الاستمرار في تسويق مجرم حرب كسمير جعجع, بل وايضاً لأن مفتاح حل الازمة في يده, إذ ثمة استهتار بعقول اللبنانيين عندما تتم دعوتهم للمقارنة بين قاتل وزعيم ميليشيا انعزالية تعاونت مع الشيطان الاسرائيلي لتمرير مشروعها الرامي الى فك ارتباط لبنان بمحيطه العربي، وبين رجل حكيم وعاقل وآدمي مثل الجنرال عون، رغم كل ما يُقال عنه ويُنسب اليه أو المحيطين به وبعضه قد يكون صحيحاً أو دقيقاً.
لا يمكن بالطبع فصل ازمة لبنان الرئاسية (والارهابية بعد ان فرضت داعش وجبهة النصرة جدول اعمالهما على اللبنانيين, وباتتا جزءا من مشهد اقليمي معقد وخطير) عن أزمات المنطقة التي تزداد هي الاخرى تعقيدا وخطورة على نحو يشي بأن «الكِباش» بين أهداف وخطط العواصم الاقليمية المتنافسة أو المتعادية مرشح للاستمرار، اذا لم يتم تدارك الامور والاعتراف المتبادل بمصالح هذه الاطراف، وإلاّ فإن شعوب المنطقة (كافة) هي التي تدفع في النهاية، أكلاف الحقد والبغضاء وتصفية الحسابات التي تحكم مسار سياسات هذه الدول التي اسهمت معظمها إن لم نقل كلها, في ايصال المنطقة، دولها والشعوب، الى هذه المرحلة الاخطر من تاريخها والتي تُنذر بانهيارات وانكسارات وشطب قيادات وزعامات, فضلاً عن اعادة رسم خرائط وابراز دول وكيانات جديدة على حساب اخرى ظن قادة بعضها انها ثابتة ودائمة, بل وضرورة لمصالح الأسياد عبر المحيطات فإذا بهم يركلونها–ويركلونهم–عند اول منعطف.
هل ينجو لبنان من فخ مقايضة جنوده المختطفين مع سجناء سجن رومية؟ وهل يُمكن ان يبرز اسم جديد في فضاء الشغور الرئاسي, يضع حدا لهذه السجالات التي تعكس مصالح الاخرين, اكثر مما تفيد اللبنانيين او تحميهم من غوائل صعوبة الحياة وتربّص الارهابيين ومخططات السفارات واجهزتها الاستخبارية؟
.. اسألوا الذين يُصدرون اوامر العمليات من بعض العواصم الاقليمية.
(الرأي)