أحبك يا وطني، وأشتاق اليك دوما. أشتاق لشرب الماء من جداولك العذبة (الغير ملوثة)، اشتاق لجلسات الربيع العائلية التي تبدأ مع العصر قبل الغروب بعد أن تشطف "الصبايا" البرندة ببعض الماء، أو الكثير منه (إذا توفر)،،، لتطول الجلسة بـ "خراريف" و"دواوين" الختيارية والشباب من الشرق والغرب والشمال والجنوب، في السياسة وعلم الإجتماع واخبار الجيران والأقارب ونصائح دينية ودنيوية وشكاوى (وما اكثرها) دون ملل، يتخللها وقت مستقطع قد يطول للصلاة وشرب الشاي والقهوة العربية والترحيب بالزوار من الجيران والاقارب الذين تغريهم الجلسة الصيفية ورائحة الهيل فينساقون دون مقاومة الى بيتنا.
اشتاق لزقزقة العصافير الصباحية وعند الغروب، اشتاق الى كوب الحليب والقهوة في الصباح والى شمسك الصافية الحارة واللطيفة على رؤوس ابنائها وهي ترحب باليوم الجديد قائلة تفائلوا ان مع العسر يسرا، وللنسمة اللطيفة التي تداعب وجوهنا وصوت اطفالنا يلعبون في الهواء الطلق ولسان حالهم يقول لنعش يومنا فلا نعلم ما يكون غدا.... وهم محقون.
فكم يعتصرني الالم والخوف وانا هنا في احضان الغربة اقرأ واستمع لانات وآهات اهلي واصدقائي في بلدي من الحرائق المستعرة بسبب سعر الكاز والغاز والخبز والماء والكهرباء والخضار وكل شيء وما سببه ومازال يسببه ذلك من غلاء في اسعار كل الاساسيات والكماليات ورخص في اسعار الانسان الذي هو "اغلى ما نملك". اتمدد على شرفات الرعب طوعا وانا اتأمل منظرا في خيالي لايام لا ادري ان كنت سأشهدها كما يراها القاطنون فيك ولا اعرف هل سابكي ايامي السالفة ام لا حين اتشرف باحتضانك خطواتي في اجازة الصيف التي انتظرها بفارغ الصبر كي ارتمي بين يديك وابكيك شوقا وفرحا.
كيف لا يسكنني الالم والخوف وانا اتآكل كلما فتحت صفحة من جريدة الكترونية لأقرأ عن اخبار جرائم خطف وقتل وسرقة تفنن اصحابها في تنفيذها والهدف واحد...اسكات الجوع المحدق بابناء الوطن.
ارتعدت ومازالت فرائصي ترتعد كلما قرأت عن طفل جديد وجد في حاوية بدل ان يتدثر في فراشه الوثير في ايدي امينة. هل بات ابنائنا يلقون مصير النفايات بدل احضان الامهات؟ هل نزل مستوى المواطن واخلاق بعض المواطنين الى هذه الهاوية السحيقة؟!
ضحكت الما وحزنا حين وصلني بريد الكتروني عنوانه "الشيطان يهجر الاردن" والمضمون ان الشيطان لم يعد لديه عمل في بلدي، ليس لانه بات بلدا تسكنه الملائكة بل لان الشيطان بات عاجزا تسكنه الرحمة من هول ما يوسوس بني البشر في بلدي من فضائع، ضحكت الما وبكيت ومازلت، نعم بكيت وقلت في نفسي ليس هذا بلدي الذي اعرف وانا لم اغب عنه سوى اشهر معدودة.
في بلدي باتت الأشياء تأخذ معانيا اخرى، فالأمومة تغيرت فأضحت الأم ترغب في التخلص من الإنسان الكامل الذي نما في احشائها لتسعة اشهر يأكل ما تأكل ويسمع ما تسمع ويحزن ويضحك معها، هانت عليها العشرة مع من بات صوتها بالنسبة له الملاذ الآمن الذي فقده فجأة ودون مقدمات ليستبدله بصوت عربة نقل النفايات التي قد تكون آخر صوت يصل الى آذانه الصغيرة.
احبك يا وطني، وكل محب يبكي لألم حبيبه وانا ابكيك دما واصلي، انه كالكابوس ما اسمع عن اهوال تجتاحك يا حبيبي، وعن تجار من مختلف الفئات تجمعهم صفة واحدة "الجشع". احبك كما يحبك ابناي اللذان لا يكفان عن طلب الذهاب الى المطار وفي مخيلتهم الصغيرة انك تسكن هناك، في المسافة ما بين ارض المطار والطائرة، فيقول لي اسامة : "ماما اريد ان اذهب الى عمان يوم الاحد"، فأقول في سري وانا ايضا يا اسامة اشتاق ليوم الاحد ذاك واشم رائحة الهواء النقي هنا في الغربة، بل واشتاق لاصوات الاهل هناك حيث السوسن الاسود وهو الاسود الاوحد المحمود في بلدي، فكل سواد مهما تدرج يبقى قاتما.
بلدي مليئ بخيرات (الله يعلمها) انعمها سبحانه وتعالى عليه، وبطقس رائع يؤهله ان يحتل المرتبة الاولى في السياحة و التنزه على العالم وتربة خصبه تجعله قادرا على ان يكون في مصافي الدول المصدرة للمزروعات ليعيش شعبه ازمنة ازدهار، فأين نحن من تلك الثروات التي ينهشها من ينهشها؟! هل ستكون الايام التي اشتاقها ملك يدي من جديد ام انها باتت في خانة الذكريات ابدا؟! سؤال اتمنى ان يكون جوابه من الفئة الاولى لانعم ولو لسويعات بحضن الوطن دون الاشتياق للاستمتاع بنعمة الغربة.