تفاجأ المواطنون والمراقبون الأردنيون، خلال الأيام القليلة الماضية، باهتمام مفاجئ، مسكون بحالة من القلق لدى المسؤولين الأوروبيين والغربيين من تمدّد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) إلى الحدود الأردنية. وهو الهاجس الذي اعتلى عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليحذّر بأنّ "داعش" بات على حدود الأردن!
المفارقة أنّ الملك نفسه، وفي مقابلته في "الغد" الشهر الماضي، أكّد أنّه لا يشعر بالقلق من وصول "داعش" إلى الأردن من الخارج؛ فالتربة الخصبة التي تغذّي هذا التنظيم وتعطيه عوامل القوة والصعود والنمو، وتتمثّل في الصراع الطائفي، غير متوافرة أردنياً. ربما يكون هذا الهاجس لدى الغرب صحيحاً فيما يتعلّق بلبنان، وما حدث في عرسال وحكاية الجنود اللبنانيين المختطفين ما تزال متفاعلة، مع ارتفاع منسوب التشققات الداخلية والاستقطاب إلى مرحلة متطورة تماماً.
صحيح أنّ التحذيرات الغربية تقوم على قراءات ومعطيات، لكنّ ما يتصل بالحالة الأردنية يبقى غير مقنع لنا، كمراقبين ومتابعين، على الأمد القصير. أمّا على المدى البعيد، فكل المنطقة في مهبّ الريح. وعلى الأغلب، فإن هذه التحذيرات مرتبطة بالصدمة التي أصابت الحكومات الغربية بعد الموصل، وبالتحضيرات الدولية الحثيثة والمتسارعة لإيجاد تحالف دولي لمواجهة تمدّد هذا التنظيم وتهديده للأمن الإقليمي!
بالرغم من محدودية القلق الوطني الأردني من تمدّد "داعش"، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي أمراً آخر أكثر حضوراً في أوساط المواطنين، وهو المصدر الحقيقي للقلق، ولا ينفصل عمّا يحدث من حولنا في المنطقة العربية عموماً، ويتمثّل في انهيار المنظومات الأخلاقية والسياسية والجوامع الوطنية.
وهذا وذاك مؤشّر على حالة عامة، تتجاوز المخيال الاجتماعي المرتبط بـ"داعش"؛ ترتبط بغياب الأفق السياسي، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، وفشل مشاريع التنمية، والشكوك حول قيمة القانون والعدالة والمواطنة، وتزايد الفوضى والعنف الداخلي والمجتمعي وانتشار الجرائم، وانهيار التعليم، وانتشار الجريمة والمخدرات.. فمثل هذه المؤشرات الداخلية هي البيئة المنتجة للتطرف عموماً، والذي بات "داعش يمثّل اليوم أسوأ صوره.
صحيح أنّ الأردن لا يواجه تحدّي الانقسامات الطائفية والمذهبية، بل يمثّل حالة مغايرة تماماً في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، ولا توجد حاضنة اجتماعية من هذا القبيل، لكن هناك بيئة منتجة لهذا التيار بدأت تظهر جليّاً خلال الأعوام الماضية في العديد من المناطق، وهي -بالمناسبة- ذاتها البيئة التي تنتج الجرائم والأزمات والعاطلين عن العمل والمخدرات وجيل من الشباب التائه فكرياً وروحياً، المحبط والخائف من المستقبل!
ربما هذا وذاك يقود إلى السؤال الذهبي اليوم حول الأسباب التي أدّت إلى نمو هذا التيار في الأردن، وما شهده من طفرات خلال الأعوام الماضية، بالرغم من غياب أي صراع هويّاتي طائفي، مثلما هي الحال في العراق وسورية ولبنان؟
الجواب عن ذلك يكمن في أنّ سؤال الهوية يتجاوز القضية الطائفية وحدها، وإن كان ما يحدث في المنطقة أثّر كثيراً على نسبة هائلة من الشباب الأردني، إذ مسّ إشكالية الهوية لديهم. فالهوية ترتبط بعوامل وروافد كثيرة، وتأخذ أبعاداً متنوعة، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ومظاهرها تتجلّى في المؤشرات السابقة، فيما تتلخّص عقدتها الأساسية في الشعور بالقلق وغياب الأمل وانعدام الأفق، وهو محصّلة لفشل سياسي وثقافي وتعليمي!
بكلمة، عيون الأردنيين تتجه إلى الداخل عندما نبحث عن مصادر القلق والهواجس الحقيقية؛ فما يخيف الأردنيين وهم يرون الانهيارات المحيطة، ليس أن يتمدد "داعش" عبر الحدود، بل أن تنمو تلك الروح التي أصابت المجتمعات العربية باللعنة من الداخل، إذا لم نتنبه لأهمية الإصلاح ونسير بجدّية في هذه الطريق، فأزمة الدولة العربية هي التي تغذّي ذلك الوحش وتطعمه وتمنحه أسباب القوة والانتشار، ليأكل مجتمعاتنا في نهاية اليوم!
(الغد)