يصح القول ان اسرائيل قد خاضت الحرب على غزة بتوقيت وجدته صائباً عربياً بتشكل محور مناوئ لحماس، وإسلاميا ببروز تنظيم داعش الذي يمكن ببساطة استغلال افعاله لالصاقها بحماس، ونظام مصري جديد هو الأشد عداءً لحماس (اسرائيل خاضت ثلاث حروب على غزة الأولى قبيل نهاية نظام حسني مبارك وكان قد غض النظر عن جرائم اسرائيل لثلاثة اسابيع، والثاني تحت حكم محمد مرسي استمرت أسبوعا واحدا، والثالثة تحت حكم الرئيس السيسي وطالت لأكثر من سبعة أسابيع)، وعالم غربي منافق بدأ يحس أن انتصار حركات المقاومة على إسرائيل رأس الحربة الغربية في المنطقة العربية المطلة على العالم الإسلامي يكشف هذا الغرب ويجعلة وجها لوجه أمام تلك المقاومة وتفرعاتها، وهو ما لا يرغبه.
لذلك وجدت إسرائيل أن اللحظة مناسبة تماما لتفعيل التفويض غير المسبوق الممنوح لها (لاسباب مختلفة) إقليميا وعربيا وإسلاميا وغربيا، واستثمار الهواجس والمخاوف والكراهية لحماس بخاصة وللفلسطينيين بعامة باعتبارهم المشكلة الآن، لتوجية ضربة نهائية للمقاومة ولغزة كمقدمة لتصفية حزب الله لاحقا في لبنان، باعتبار ذلك نتيجة طبيعية لاستثمار الانتصار الإسرائيلي في غزة، وتوطيدا للتحالف العلني القائم بين اسرائيل وجيرانها وأصدقائها الجدد.
لكن حساب الحقل الإسرائيلي المدعوم عربيا وإسلاميا ودوليا لم يتطابق مع حساب البيدر الفلسطيني الغزاوي، فالمقاومة وقد استشعرت انها محاصرة ووحيدة تقريبا ركزت على خمسة أمور رئيسية الإبداع والابتكار والمفاجآت لمواجهة وتفادي أي ضربات تستهدف الجسم المقاوم، والعمل على تمتين أواصر العلاقة مع الناس والأهل لتجذير الإلتفاف الشعبي الداعم للمقاومة والحاضن الأكثر فعالية لها كبديل استراتيجي عن الدعم العربي المعنوي الذي تراجع (حتى أن من يدعم غزة أصبح في صف الإخوان المسلمين وليس مناصرا لفلسطين)، وصمود ميداني بطولي لأطول فترة ممكنة، ومصداقية إعلامية وميدانية جعلت الجميع ينتظر ما يصدر عن المقاومة لا عن إسرائيل (وبالذات الإسرائيليون) الذين كذبوا قادتهم واختبروا صدق الرواية الفلسطينية، فيما بعض كثير من العرب والمسلمين والغرب المنافق وعلى رأسه الولايات المتحدة والموظف الأممي لديها بان كي مون يسارعون لتصديق كل أكاذيب إسرائيل التي يعلمون أنها تكذب.
وما حدث ان إسرائيل صالت وجالت بتدمير غزة إنسانيا واجتماعيا ودينيا وتعليميا ومرافقيا وعمرانيا، وبحقد دفين وأعين مغمضة من الجميع عربيا وإسلاميا وغربيا، لكنها لم تتمكن من أن تدمر بنية المقاومة عسكريا او معنويا، بل إنها وجدت نفسها في مأزق كبير أمام شعبها الذي لم يلمس تحقيق أي من الأهداف المعلنة للعدوان كتدمير حماس ووقف الصواريخ وتركيع غزة وإسكات أي صوت يطالب بفلسطين اوتلقين الفلسطينيين كما ظنت (ومعها الجيران والاصدقاء) درسا لعدم الحلم بأي استقلال او دولة.
فكان نصيب كل غزي 11.5 كيلوغرام من المتفجرات، وأربع رصاصات، حتى أن غزة وبالمقارنة مع اليابان في الحرب العالمية الثانية قد قصفت بست قنابل نووية مقابل اثنتين القيتا على اليابان فاستسلمت، لكن غزة أبت ذلك حتى مع استشهاد وجرح 0.7% من ابنائها ، وتشرد ثلث سكانها، واصابة 98 % على الاقل من مواطنيها بحالات من الهلع والخوف الإنساني الطبيعي جراء أصوات القصف والانفجارات والإخلاء والتدمير للأبراج والمساكن.
نخلص من كل ذلك لنقول إن غزة صمدت، وبهذا المعنى نجحت، وبالطبع فالكلفة هائلة، وهي كلفة كان الكثير من الانظمة العربية مستعدا لتدفيع شعوبها أضعافها إن قررت الثورة عليها، فكيف بالفلسطينيين وهم يواجهون اسرائيل التي تنكر وجودهم كشعب اصلا، ويقاومون باللحم الحي مستعمرا ومستوطنا ومحتلا يمنع عنهم الماء والغذاء والدواء والهواء والبحر والبر والجو لكي يموتوا؟
اذا فالحديث عن الكلفة هنا ليس حبا او رأفة بالشعب الفلسطيني (حتى لو صدرت عن اطراف فلسطينية)، وانما محاولة للنيل من صموده ولتقزيم تضحياته الواجبة على كل شعب حي يقاوم الاستعمار والاحتلال، فكرامة الاوطان دائما مروية بدماء الشهداء، فهل يريد هذا البعض الذي يفيض حبا وهياما بالشعب الفلسطيني ان يظل تحت الاحتلال والحصار والذل لان ذلك يدغدغ مشاعره المرهفة؟ام أن البعض عربيا وإسلاميا وغربيا يريد له أن يموت بهدوء ودون أي تكلفة يتحملها القاتل، لأن العالم المتحضر لا يحتمل القتل الجماعي، لكن وكما ثبت بالدليل القاطع فأن هذا العالم كاذب في ذلك فهو يقبل المجازر إذا كان ضحاياها فلسطينيون، واليد القاتلة إسرائيلية، والمتفرجون من العرب والمسلمين.
لذلك كله يصح القول أيضا أن الحرب على غزة لم تكن قرارا صائبا اسرائيليا فرغم الاجرام الذي فاق التصور كانت المفاجئة صمود المقاومة، ومواجهة العدوان بالتفوق الإبداعي، والإبتكار الميداني، والتضحيةالواثقة، والفداء المخطط له والمحسوب بدقة، ما أخل بميزان التفوق الاسرائيلي لصالح الوسائل الفدائية المبدعة التي حجمت مفاعيل ذلك التفوق ، وهنا بالضبط كان الانتصار .