من المسائل المهمة التي يجب الالتفات إليها في موضوع إصدار الأحكام والفتاوى الشرعية بالإضافة إلى فقه الكليات والجزئيات، وفقه المآلات، هي المتعلقة بفقه الأولويات، وهي ذات صلة وثيقة بفقه المآلات، والالتفات إلى القواعد والأصول والكليات، مما يقتضي للفقيه ولكل من يتصدر عالم الفتوى أن يكون ملماً بالواقع المعاش، ويمتلك بصيرة ثاقبة تجعله قادراً على إدراك الأمور وما يحيط بها من ظروف، وقادر على إدراك ترتيب الأحكام من حيث ضرورتها والحاجة إليها، ومن حيث أهميتها وأثرها في تحقيق مصالح العباد.
يتجلى فقه الأولويات بصورة واضحة لدى حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الذي كان سباقاً في التأصيل لهذا العلم وجاء بعده الإمام الشاطبي عندما قسم الأحكام الشرعية بحسب مستويات المصلحة وأهميتها وأثرها في الحياة فجعلها ثلاث مستويات :-
المستوى الأول وهو الأعظم شأناً والأعلى مرتبة أطلق عليه مصطلح الضروريات، وهي التي لا تقوم الحياة إلّا بها، وإذا فقدت اختلت الحياة ودخلها الفساد.
المستوى الثاني يسمى الحاجيات وهي المرتبة الثانية بعد الضرورات، والتي يسبب فقدانها إلحاق الحرج والمشقة بالمكلفين، دون الوصول إلى مرتبة الاختلال والفساد.
المستوى الثالث الذي أطلق عليه مصطلح التحسينات وهي المتعلقة بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي خادمة للحاجيات وخادمة للضرورات، وتأتي بعدهما في الترتيب والأولوية.
لا يجوز التعلق بأمر تحسيني على حساب الحاجي والضروري، ولا يجوز للمكلف أن يجعل المرتبة الأدنى لاغية للمرتبة الأعلى، بل ما يتوجب على أصحاب العقول أن يبدأوا بتحصيل المراتب الأعلى شأناً بمقاصد الشريعة معرفة وتطبيقاً لأنّ لها الأولوية بالطلب والأجر والفعل، ثم ينتقل بعد ذلك بشكل متدرج إلى ما هو أدنى.
فقه الأولويات يوجب على الإنسان أن يمتلك العلم والفقه والإلمام الواسع والبصيرة التي تجعله قادراً على ترتيب الأمور على مستوى الحياة الفردية والجماعية وأن يدرك المرتبة الحقيقية لكل فعل ولكل عبادة، وكل شأن من شؤون الدنيا والآخرة، وهذا هو حصيلة العلم والتعليم وثمرة التدريب واكتساب الخبرة، حيث أن الدين والشريعة ما كانا إلّا من أجل تحقيق مصالح العباد على الوجه الأكمل، من خلال توجيه العقل وإكسابه مهارات الموازنة بين الأشياء وحسن التقدير للأمور، وإدراك مدى الأهمية والأثر المترتب على كل تصرف.
ولذلك جاء الحكم الشرعي مرتباً بين الفرض والواجب والمندوب في كل المطلوبات، ومرتباً بين الحرام والمكروه في المنهيات، فليس معقولاً أن يتعلق الإنسان بالمندوب والنافلة وينسى الفرض ويقصر في الواجبات، ومن صميم الجهل أن يلتزم الفرد بالبعد عن المكروه ثم يتساهل في المحرمات.
لقد ورد في القرآن الكريم اشارات كثيرة ترشد العقل إلى إدراك الأولوية في مراتب الأفعال، ومثال ذلك قوله تعالى : « أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» مع أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام فضيلة وأمر مطلوب، ولكن لا وزن لهذه الفضيلة إذا كان الإنسان مفرّطاً بحقيقة الإيمان وصحة الاعتقاد، وقال تعالى أيضاً : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء» ليقرر القرآن حقيقة الأولويات وفقه ترتيب الأمور التي يجب أن تبدأ من حقيقة الإيمان وصحة المعتقد أولاً.
لقد ورد في السيرة الصحيحة أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقي يصلي في الكعبة سنوات طويلة وهي مليئة بالأصنام، ومن ثم جاء ليحطمها بعد فتح مكة، حيث أنه عليه السلام لم يكن يعتبر الاهتمام بهذا المظهر يشكل أولوية في ذلك الوقت، أمام تصحيح الاعتقاد في نفوس القوم، وكانت الأولوية أن يبدأ بتصحيح التصورات ونشر المفاهيم الصحيحة للإيمان ومقتضيات الاعتقاد الصحيح دون إثارة الدهماء والجهلاء، حيث بدأ بتحطيم الأصنام في النفوس والقلوب والعقول أولاً.
إن أفضل ما يؤتى المرء هو الحكمة، والحكمة تكون بقدرة الإنسان على إدراك موقع الفعل من حيث أولوية الطلب ومراتب الأشياء وترتيب الأمور من حيث الأثر والأهمية حتى يضع كل شيء في موضعه المناسب، وأن يفعله بالوقت المناسب والطريقة المناسبة قال تعالى : « ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً».
(الدستور)