غَزّةُ في مَعيّة اللـهِ ..
محمد حسن التل
28-08-2014 03:35 AM
مَن كان يظن أنّ من خلف ركام الهزائم والمؤامرات، والحصار والموت والتشرد، يسطع نور النصر في غزّة، على أيدي شعب أعزل مظلوم محاصر، ومقاومة خاوية اليدين إلا من أسلحة بدائية صُنعت من مواد بدائية، ولكن الإرادة والتحدي، وفوقهما الإيمان الثابت بوعد الله عزّ وجلّ بالنصر لمن صَدَقه، هي التي صنعت هذا النصر الذي أذهل العالم، وصدم العدو.
أكثر من خمسين يوماً والعدو يراهن على كسر إرادة غزّة، ويجرب كل أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً على أهلها، وخلفه معظم العالم يشدُّ من أزره، ويدعمه ماديًا وسياسيًّا، وبكل أنواع الدعم التي تخطر على بال بشر، ويأبى أبناء غزّة ومقاومتهم، ويستعصوا على كل هذا الواقع الصعب الأليم، واضعين نصب أعينهم النصر أو الشهادة، فخرجوا لليهود من فوق الأرض ومن تحتها ومن البحر، صدورهم مكشوفة وظهورهم عارية، لكن قلوبهم وعزائمهم كانت ثابتة مؤيَّدة من الله عزّ وجلّ، ومن اقتناع كامل بحقهم في أرضهم، وحقهم في الحياة الكريمة كباقي شعوب الأرض.
قال تعالى «إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً».
غزّة هاشم.. هذا الدم الذي سُفك على ترابها الطهور، حيث كان اليهود خلال عملياتهم يستعرضون قوتهم على أطفالها ونسائها وشيوخها، أبت أن تظلّ تعيش بين باطلين، حصار اليهود وغدرهم وخذلان العالم، صنعت نصرها بدماء أبنائها وصمودهم، وأخذت زمام الأمر بنفسها ونازلت الإسرائيليين، حتى نزلوا على أمرها وشرطها، ضاربةً أروع المُثل وأقواها وأصدقها لأمتها، وللعالم كله -من يريد الحقّ صادقاً يأتيه الحقّ بين يديه- ومع كل هذا النصر والفوز، ستنتصب دماء أبناء غزة غداً بين يدي الله تعالى عامود نار، لتصل الأرض بالسماء وتشكو إلى ربها ظلم القريب والبعيد، ولتشهد على دهر الهزيمة وأركان المؤامرة.
على شواطئ غزّة تكسّرت كل أمواج الهزيمة، وخيوط المؤامرة التي كانت تريد النيل من عزيمة الصادقين، وأشرقت شمس الله في قلوب أبنائها، فتمرّدوا على الواقع الأليم والمرير، وثبتوا ثبوت الجبال، فنالوا من عدوهم، وتجاوزوا بعطائهم كل الأفق، فاستحقوا النصر من ربهم.
ربما يقول مشكّك: عن أيّ نصر تتحدثون، وسط آلاف الشهداء والجرحى والمشردين وحجم الدمار الذي ضرب كل شيء؟ النصر هنا لا يُقاس بالماديات بمقدار ما يُقاس بالثبات، خصوصاً وسط اختلال موازين القوى الكبير، الذي كان واضحاً في المعركة، لقد كانت أهداف إسرائيل مُعلنة بشكل واضح، وهي القضاء على المقاومة ونزع سلاحها، ولا مانع من احتلال أجزاء كبيرة من غزّة، وكانت شروط غزّة أيضاً واضحة مُعلنة، رفع الحصار وعدم المساس بسلاح المقاومة، ولننظر من حقق شروطه لنحكم من انتصر ومن انهزم.
لقد كان من العناوين الأبرز لانتصار غزّة على إسرائيل، دخول المستقبل السياسي لزعيم الحرب الإسرائيلية على غزّة نتنياهو في المجهول، والمُتابع لتصريحات الزعماء في الكيان الصهيوني، يُدرك حقيقة الأمر تماماً.
وما تصريحات نتنياهو بانه لم يحقق اي شرط لغزة ما هي الا ترهات مهزوم مغلوب على امره، لان الواقع يكذبه، اللهم الا اذا قاس هذا المجرم انتصاراته بعدد الشهداء والجرحى وحجم الدمار.
إنّ الأردن منذ اللحظة الأولى، منذ انفجر الاعتداء الصهيوني على غزّة، اشتبك مع الحدث، من أوسع أبوابه، متطابقاً بذلك مع مواقفه التاريخية إزاء قضية فلسطين، في الدفاع عن حقّ الأمة فيها، وكان السَّند الحقيقي للشعب الفلسطيني، رغم كل المزايدات من الذين اعتادوا على طعن الأمة في الخلف، وكم كان الأردن وحيداً صابراً في موقفه من القضية الفلسطينية، عبر عقود الصراع المرير، وكعادة الأردن بالتلاحم والتعاضد فقد التحم الموقف الشعبي مع الموقف الرسمي، ليكون موقفه مميزاً عن كل العرب، بعيداً عن دهاليز السياسة وألاعيب الإعلام.
إنّ ما جرى على أرض غزّة صراع حضاري، بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ بين الحياة والفناء، بين الإيمان والكفر، وللأسف لا يزال كثير منا يحاولون تجاوز هذه الحقيقة، باعتبار هذا الصّراع معركة عادية مفاهيمها مادية.
إنّ الآثار المدوية التي تركتها معركة غزّة، ستكون ذات طعم مختلف؛ لأنّ في هذه المعركة استطاع أبناء غزّة أن يبعثوا في الأمة روحاً، كانت غائبة منذ عقود، وهي عقيدة الجهاد والثأر ممن استباحوها وأرادوا تغييبها.
تُرى من كان يُصدق، لو وقف واحد على ضفاف دجلة، وهو مصبوغ بالدم والحبر يوم دخل المغول بغداد، وفعلوا ما فعلوا، أنّ الشمل سيجتمع من جديد، وتعود جحافل الفتح لتدكّ أسوار القسطنطينية من جديد؟ وهل كان أحد يُصدق، لو جاء على المنتظرين للذبح في صحن المسجد الأقصى، عندما كانت خيول برابرة أوروبا تغوص في الدماء إلى الركب، بأن أحفاد صلاح الدين ونور الدين، لم يقفوا عند ضفاف البسفور والدردنيل، بل سوف يتجاوزونه إلى أوروبا، وتجتاح جيوش المسلمين مساحات واسعة، وتقف على أبواب فيينا حاملة راية الإسلام إلى هناك، راية العدل والكرامة والمساواة؟.
واليوم في رحاب النصر من كان يظن ان غزة على ضعفها المادي ان تهزم ابشع جيش عرفه التاريخ الحديث والمعاصر٫
إنّ الغزو الإسرائيلي لغزّة، كان المسمار الذي فقأ الدماء المملوءة بالقيح والصديد التي تُغطي كل أجواء هذا العالم، الذي كشفت مأساة غزّة وجهه المريض والمأزوم، وعرّت أسيادَه وأظهرتهم على حقيقتهم البشعة.
إنّ الواقع العربي والإسلامي، على كلّ ما فيه من تخلّف وتمزّق وضياع،
لا يزال قادراً على الحركة والتغلب على ضعفه، والوقوف إلى جانب الحقّ، وما جرى أمس الأول لحظة الإعلان عن وقف لإطلاق النار في غزّة، في معظم مدن العرب والمسلمين، من مسيرات تُعبّر عن الفرح الكبير بالنصر، لهو خير دليل على أنّ الأمة لا تزال تشتاق إلى النصر، وأنها تتطلَّع إلى يوم التحرير، الذي سيغسل عار العقود، وستظلّ غزّة وكل فلسطين في معيّة الله، حتى يَقضي أمرَه.
(الدستور)