من حق أهل غزة أن يحتفلوا بوقف إطلاق النار مع الإسرائيليين ، بعد خمسين يوماً من حمامات الدماء والقتل والتشريد والدمار، فهم خلال هذه الفترة قد تحملوا ما كان تحمله الفلسطينيون واللبنانيون خلال حصار بيروت في عام 1982 الذي استمر ثلاثة شهور وهُمْ كانوا قد تحملوا ويلات حربين ظالمتين حرب عام 2008-2009 وحرب عام 2012 ولكنهم لم يخرجوا إلاَّ بوعدٍ مع حرب جديدة هي هذه الحرب الأخيرة التي من غير المستبعد أن تتجدد وتُستَأْنف في أي لحظة!!.
لكنَّ ما هو مستغربٌ وغير مفهوم هو أن حركة «حماس» قد أعلنت أنها قد حققت انتصاراً ما بعده انتصار وذلك مع أن معادلة الربح والخسارة والهزيمة والإنتصار في هذه الحرب لا يمكن اعتبارها أنها «طابشة» لحسابهم.. إلاَّ إنْ هي اعتبرت أنَّ مجرد بقاءها ، بغض النظر عن الخسائر الفادحة التي ألحقها العدو بالشعب الفلسطيني وبقطاع غزة كله، هو الهدف.. وهذا في حقيقة الأمر قد تحقق ولا يمكن النقاش فيه.
بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 المنكرة ، التي احتلت فيها إسرائيل باقي ما تبقى من فلسطين وسيناء كلها حتى قناة السويس وهضبة الجولان التي لا تزال واقعاياً محتلة، بادر ، الذين أعطوا الإسرائيليين كل المبررات التي كانوا ينتظرونها للقيام بعدوانهم، إلى الإعلان عن إحراز انتصارات مدوية ما دام أن «العدو الصهيوني» ، رغم احتلاله لكل هذه الأراضي العربية التي احتلها، لم يستطع إسقاط الأنظمة الثورية والتقدمية.. وبالطبع فقد كان المقصود هو نظام الرئيس جمال عبد الناصر في مصر ونظام حزب البعث في سوريا.. حيث كان وزير دفاعه حافظ الأسد الذي أعلن سقوط الهضبة السورية ومعها جبل الشيخ قبل ثمان وأربعين ساعة من احتلالها من قبل القوات الإسرائيلية.
وهنا وللإنصاف فإنه لم يكن متوقعاً ولا مطلوباً من حركة «حماس» أن تهزم القوات الإسرائيلية الغاشمة شرَّ هزيمة وأن تحتل بئر السبع أو تل أبيب أو عسقلان فهذه مسألة محسومة وتحقيق هكذا إنتصار يحتاج إلى معادلة عربية غير هذه المعادلة ويحتاج أيضاً إلى معادلة دولية غير هذه المعادلة.. ويحتاج قبل هذا إلى أوضاع فلسطينية غير هذه الأوضاع.. ولقد جاء في كتاب الله الكريم :»لا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها»!!.
وحقيقة أنه لابد من القول :إن «حماس» قد قامت بكل ما تستطيع القيام به.. نسأل الله أن يعطيها العافية.. وذلك مع أنه كان عليها ألاَّ تستدرج هذه الحرب الغاشمة ولحسابات ليست فلسطينية على الإطلاق..
كما أنه كان عليها ألاَّ تُسْتدرَج لهذه الحرب التي أرادها الإسرائيليون ليس للقضاء على حركة المقاومة الإسلامية ولا لاستنزاف صورايخها وأيضاً ولا لتدمير «أنفاقها» وإنما لإسقاط مشروع الوحدة الوطنية الفلسطينية ولإبعاد هدف أنْ تُصبح غزة والضفة الغربية كياناً سياسياً موحداً ولإحباط مشروع إقامة الدولة المستقلة على كل الأراضي التي أحتلت في عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية الذي إنْ أردنا الحقيقة فإنه قد حقق تقدماً لا يمكن إنكاره في السنة الأخيرة.
...وهكذا فإنه علينا أنْ نسأل أنفسنا ونتساءل عن حقيقة هذا الإنتصار الذي تحقق والذي لم يُفوِّتُ الإخوان المسلمون ، المصابون بداء «الإفلاس» القاتل، الإحتفال به على طريقتهم .. هل أن ما تضمنتْه «هدنة» الشهر ، التي كان الإنتصار الوحيد فيها لمصر وليس لغيرها حيث أثبتت رغم كل المماحكات والمؤامرات أنها الرقم الرئيسي في هذه المنطقة وبخاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية هذه الهدنة التي لا تزال مفتوحة على شتى الإحتمالات، يستحق أكثر من ألفين وخمسمئة شهيدٍ وأكثر من عشرة آلاف جريحٍ من أبناء الشعب الفلسطيني العظيم.. شعب الشهداء وكل هذا بالإضافة إلى كل هذا الدمار الذي أعتبره المراقبون الغربيون «هيروشيما» ثانية.
ولعل الأكثر خطورة من هذا كله هو أنْ تذهب نشوة هذا «الإنتصار» بحركة «حماس» إلى الإرتداد عن الخطوة المتواضعة جداً التي تحققت على صعيد الوحدة الوطنية الفلسطينية وأن تقفز من فوق منظمة التحرير وتقبل بحلٍّ في غزة يكون بديلاً للحل في القدس والضفة الغربية.. إنَّ هذه هي مشكلة المشاكل والواضح أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين المنشغل حالياً بتأجيج حرب أهلية في ليبيا وبتأجيج حرب إرهابية في مصر ليس لديه أي مانع في أن تتقزم التطلعات الفلسطينية إلى حد القبول بدولة «غزية» يمكن إستخدامها كخنجر في خاصرة النظام المصري الجديد وكخندق متقدم لإستعادة نظام كان على رأسه محمد مرسي لم يستطيعوا المحافظة عليه.. والأسباب هنا كثيرة ومتعددة!!.
(الرأي)